حسين علي حسين



كانت الجرار الفخارية والأزيار هي آنية حفظ الماء الوحيدة في الحجاز، وهناك أفران كبيرة تضم عمالاً مهرة لصناعة هذه الأواني المتعددة الأشكال التي يميل لونها إلى اللون الجيري أو الترابي، ولن تجد منزلاً يخلو من هذه الآنية. وقد كانت المدينة المنورة رائدة في هذه الصناعة، حتى أن زوار المدينة الذين يأتون لزيارتها في مواسم معروفة أبرزها أشهر رجب وشعبان وشوال وذي الحجة لا يجدون هدية يحملونها لأهلهم في مدن الحجاز الأخرى سوى الآنية الفخارية، ومعها التمور والنعناع. هذه الأشياء هي ما تهدى إلى الأحبة، ولها في أسواق المدينة محلات كبيرة لتسويقها وتجهيزها لكي تصل إلى مشتريها خارج المدينة دون أن تتعرض للكسر. وكان من أبرز مسوقيها الشيخ عابد الطبيلي -رحمه الله- ودكانه في سوق العياشة (أزيل في توسعة المسجد النبوي) كثيراً ما يرتادها الزوار من مكة وجدة خصوصاً لشراء هذه الأواني.

أما صناعة هذه الجرار فهي قصة أخرى، قد لا تختلف كثيراً عن صناعة الطوب الأحمر والأبيض الذي يصنع الآن في المدينة.

هذه الآنية قديمة العهد في المدينة، ربما تعود إلى العهد المملوكي، حيث كانت أواني الطعام والشراب وأواني حفظ الماء كلها تصنع من الفخار، لخصائص يعرفها الذواقة في الطعام والشراب، مع أنها انقرضت من الحجاز إلا أنها ما زالت تستخدم في الكثير من الدول خصوصاً شمال إفريقيا والريف المصري. وقد رفضت والدتي لسنوات شرب ماء الثلاجة، حتى أختفت هذه الجرار، كانت تصفها في روشان المنزل أو على أرضية السطح حيث الهواء يساهم مساهمة كبيرة في تبريد مياه الجرار الفخارية وكانت تأخذ منها على التوالي، وكانت الزيار الكبيرة قنطرة لملئ هذه الجرار الصغيرة.

ولأهل المدينة وسائل متعددة لجعل الماء جذاباً وبالذات في أيام القيظ أو أيام الصيام أو الأعياد، حيث كانوا يخضعون هذه الآنية والكؤوس الزجاجية لعملية تبخير يستخدم فيه المستكة إما بوضعه في مبخرة خاصة وإناء الجرار الفخارية قبل ملئها بالماء والكؤوس عليه، وإما بتذويب المستكة ووضع بضع نقاط منه على الماء، وهناك من يضع مواد عطرية أخرى مثل الورد. هذا الاحتفاء بالماء ما زال موجوداً إلى الآن.. وما زال هناك من يحن إلى جرة الماء والبخور.. رغم وجود أرقى أنواع المياه نقاوة وطعماً إذا قيست بمياه ذلك الوقت التي ساهم ترشيحها عبر الأواني الفخارية في تجنيب شاربها الأمراض.. وقد كانت الجرار أرحم وأنظف من المياه التي تحفظ في القرب أو الأواني التنكية، وكلها كانت وسائل لتوصيل المياه من الآبار والعيون إلى المنازل والمقاهي والمطاعم، إضافة إلى استخدامها في البيوت للشرب اليومي وللحفظ.. هذه الوسائل انقرضت عندنا لكنها ما زالت موجودة في العديد من الدول التي لم تنعم بالمياه المبردة والمسخنة وفق أحدث الوسائل التكنولوجية!!

هناك الآن - إمعاناً في الوسوسة أو الرفاهية - من ينظرون لماء المصلحة المنقاة والمفلترة التي يشرف عليها فرق من الأخصائيين، فيعمدون إلى تركيب فلاتر باهظة الثمن في منازلهم لاستخدام هذه المياه للغسيل والاستحمام، أما الشرب فهم لا يتنازلون عن المياه المعدنية أو تلك التي يطلق عليها صحية، المهم أن يكون ما يشربونه معبأً. لذلك فقد فتح هؤلاء باب الرزق لعمالة تجمع القوارير لإعادة تصنيعها، وفتحوا باب الرزق للعديد من المصانع التي تأخذ ماء المصلحة وتعبئه في القوارير!!