نجيب عصام يماني
في 1364هـ صدر نظام التقاعد المدني، في ذلك الزمن البعيد كان عدد الموظفين يُحسبون على أصابع اليد وكانت وزارات الدولة لا تزيد عن أصابع الكف، بل كانت كلها في مبنى واحد يجمعهم قبل أن يكبر الوطن ويتمدّد بأبنائه ويُحدث بأنظمته وقوانينه وينفتح على العالم الواسع فيتأثر بالجديد ويشارك في التطور ويحارب المرض ويصبح علامة فارقة في الخريطة الكونية، وظّف الثروة والمال في بناء الفرد وتعليمه، فكانت الدولة الحديثة التي تتأثر بما حولها وأصبحت الكثير من الأنظمة لا تتفق ومعطيات التطور الذي نشهده، ولعل نظام التقاعد والذي عُرف في القرن العاشر الهجري في مصر هو الأساس الذي استمددنا منه نظام التقاعد المعمول بها الآن فهو من بواقي الأنظمة العثمانية أو ربما وضعه مستشارو الدولة آنذاك والذي استعان بهم المؤسس طيّب الله ثراه في وضع الأنظمة لدولته الجديدة المترامية الأطراف فاستمر هذا النظام كما هو عليه، لم يتأثّر بما تغيّر من تضخُّم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأسرية وطرق المعيشة وغلاء الأسعار، حتى الولادة والتي كانت تتم عن طريق الداية والماء الحار أصبحت لا تتم إلاّ في المستشفيات بمبالغ تعادل راتب متقاعد على مدار العام، قابل ذلك زيادة كبيرة في الدخل العام للدولة، وبقي راتب المتقاعد على حاله لم تطاله زيادة معتبرة تتوازن وطبيعة المتغيّرات من حوله. ولعل من أهداف مصلحة المعاشات تحقيق أهداف إنسانية ووطنية بتوفير حياة كريمة ملائمة للموظف عند تقاعده أو عجزه ولمن يعولهم بعد وفاته، فتتكفّل الدولة بدفع معاش شهري كمورد يمكّنه ويمكّن عائلته من مواجهة تكاليف الحياة وأعبائها مما يعني قيام حق مادي مكتسب نتيجة عقد عمل ارتبط به الموظف مع الدولة. هذا العقد يعتبره الفقهاء علاقة تنظيمية. والسؤال على أي أساس قانوني أو ديني تقوم الدولة بخصم 9% من راتب الموظف طِوال خدمته مع ملاحظة أن هذه النسبة هي الأعلى بين دول الخليج أو على مستوى العالم، وتقوم الدولة بدفع 9% لمصلحة التقاعد بالنسبة للمدنيين خلاف العسكريين التي تصل إلى 13%، وتُستثمر هذه الأموال وتُوظّف في مشاريع ربحية يُصرف من عائدها للموظف راتبا تقاعديا بحسب سنوات خدمته وعدد أفراد أسرته. وهنا يكمن الغبن، فطالما أن ما تم استقطاعه هو من راتب الموظف وحقوقه واستثمرتها المصلحة نيابةً عنه، فعلى أي أساس يُوزّع راتبه التقاعدي الذي يخرج منه البالغون والمتزوجون والزوجة المتوفاة. ولو أن هذا المتقاعد توفي بعد يوم من تقاعده فيُصرف للزوجة الثُمن ويُصادر الباقي وهي التي صبرت وصابرت وتحمّلت نكد الزوج ومعاناته وفشة خلقه فخفّفت آلامه وهوّنت مصائب الوظيفة عليه، فلا تأخذ نتيجة صبرها إلاّ اليسير الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، في زمن كثر غلاؤه وزادت مصاريفه وتنوّعت أمراضه حتى وإن كان الموظف على قيد الحياة فهو في حاجة إلى كل ريال فلا يسلم الموظف من أحد الأمراض السبعة المستعصية، فخروجه من الوظيفة متقاعداً يقابله زيادة في أعباء المعيشة وتضخم أساليب الحياة ومصلحة المعاشات لا تؤمّن للمتقاعدين تأمينا صحيا بل تنقطع علاقة المتقاعد بمن حوله، فالبنوك لا تسلّفه والشركات لا توظّفه وبند الأجور لا يقبله باعتبار أن له تقاعدا يستلمه ليس له مستشفى يُعالج فيه ولا صيدلية تصرف له دواء مدعّما ولا قروض ميسّرة لبناء مسكن له ولا أرض من هذه الأراضي الشاسعة تُمنح له. كُتب على وجهه ذهبت عنك الدنيا وزينتها.
نعيش عصر الشفافية الذي وضع حجر أساسه ملك الإنسانية أفلا يُعاد النظر في هذا النظام المجحف ويُنظر نظرة حانية إلى المتقاعد فهو إنسان. فالثلاثة آلاف ريال راتب المتقاعد تساوي صفرا في هذه الأيام والنظام الأساسي للحكم نص أن تكفل الدولة حق المواطن وأسرته في حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة (المادة 27). التقاعد مضى عليه خمسون عاماً ولا يمكن عقلاً أن يلبّي احتياجات مواطن اليوم، وفي نظام المصلحة إذا تبيّن وجود فائض يسمح بإضافة مزايا جديدة للمنتفعين والرفع إلى مجلس الوزراء، والصندوق ينعم بفائض كبير جمعها من استقطاعات الموظفين واستثمارها نيابةً عنهم. والتأمينات ليست أحسن حالاً من التقاعد، ينطبق عليها المثل أعرج يسحب مكسح يقول له تعال نتفسح