الجناية والمسؤولية في تدريس الإنجليزية للصّفوف الأوّليّة .. ياهيئة ياملكيه
الجناية والمسؤولية في تدريس الإنجليزية للصّفوف الأوّليّة



فواز بن عادل بن غنيم
ليس بعد حلاوة الإيمان وسعادة القلب بالتعرّف على الله تعالى؛ لذّة وسعادة توازي لذّة التحصيل والبناء العلمي الهادف الصحيح. الذي يبني الإنسان ويرتقي بروحه وفكره وسلوكه. يحدّد له المسار، وينير له الطريق، ويعمر له الحياة والوجود بحضارةٍ تعتزُّ بأصولها؛ فتبني له مستقبلاً ومجداً ينتقل به وبأمّته إلى مصافِّ الدّول العظمى .
ولن تجد مثل الإسلام ديناً وفكراً يحثُّ على طلب العلم والمعرفة، والبحث والاكتشاف، والتفكّر في الكون. وما ظهر العباقرة الأوّلون واللاحقون؛ إلا لأنّ الإسلام قدح فيهم زنادَ الشّغف والتشوّف للعلم؛ ثم استلهموا منه أرقى أساليب التعلّم التي تقوم على البحث والمناظرة والتطبيق والرّحلة في طلب العلم، ودراسته على أُسسٍ وطرقٍ صحيحةٍ، تراعي التدرّج والترتيب المنطقي.
ويا للأسف والحسرة ! فمع ما للتّعليم من الخطورة والأهمية البالغة في الحاضر والمستقبل. ومع ما للخطأ الواحد في السياسة التّعليمية من تكلفة باهظة على الأجيال. مع ذلك وغيره، فقد ابتلينا في التّعليم اليوم بكثيرٍ من الارتجالية والفردية، واستحسانات الأقلية، المحدودة في الرّصيد والخبرة أو المعدومة منهما. حتى أصبح التّعليم في عالمنا العربي قصة مأساة لم تزل تتوالى فصول تردّيها إلا من استثناءاتٍ قليلةٍ جداً.
لقد صُدم كثيرون بواحدٍ من تلك الأخطاء حين علموا ببدء تدريس اللغة الإنجليزية لجميع طلاب الصّفوف الأولية في مدارس البنين في الهيئة الملكية بينبع الصناعية ابتداءً من العام الحالي.
وكنت ممّن علم بذلك عن طريق إعلانٍ عجيب وُضِعَ عند مدخل إحدى المدراس في بداية العام الدراسي، ويحمل عبارات الفرح والاحتفاء بتدريس الإنجليزية !! حيث كتب فيه: ( royal commission in yanbu thak you I am learning a new Language
الهيئة الملكية بينبع .. شكراً لكم .. أنا أتعلم لغة جديدة .
مشروع تدريس اللغة الإنجليزية في الصفوف الأولية ) أ. ﻫ
فبدلاً من أنْ يُستقبل الطّالب المستجد بالملصقات المكبّرة لحروف لغته العربية، وعبارات التّشجيع والاحتفاء ببدئه تعلّم لغته الأصيلة والعريقة؛ يجد من يتكلّم على لسانه، ويباهي على حسابه في تعليم الإنجليزية؛ وكم تضمّن ذلك العديد من الرسائل السلبية، السيئة على المعلمين والطّلاب والبيئة المدرسية !.
لا خلاف أنّ الإنجليزية قد غدت اليوم لغة تواصل أساسية، وتعلّمها مهم ضروري لبلوغ كثيرٍ من المنافع والعلوم في مختلف المجالات والتخصّصات، ولكنّ الخلاف والنقاش حول التوقيت المناسب والطريقة الصحيحة في تدريسها؛ وأنّ ذلك لا يمكن علمياً وعملياً في مرحلة الطّفولة المبكرة وفي الصفوف الأولية، وقبل أن يتعلم ويتقن الطالب لغته الأم نطقاً وكتابةً.
قد يظن البعض من الأهالي، والبعض من غير المتخصّصين وبحسن نية، أنّ التوقيت ليس شأناً ذا بال؛ بناءً على ما لتعلم الإنجليزية من الأهمية والفائدة في عصرنا الحاضر.
والواقع أنّ للوقت والتوقيت المناسبين أهمية بالغة في مراحل البناء والتعليم الناجح السّليم. وكم هي كثيرة في حياتنا ومجتمعنا الأمور التي يتّفق الجميع على تجنيبها الصّغار حتى يكتملَ من خلال الوقت نضجهم وتكوينهم وأهليتهم لا ستيعابها.
فللأمورِ مواقيتٌ مقدّرةٌ وكلُّ أمرٍ له حدٌّ وميزانُ
جاء في بحث تأثير اللغات الأجنبية على اللغة الأم، للأستاذة في المناهج وطرق التدريس د. نجاة بنت عبدالعزيز المطوع :
« بالنسبة للآثار المترتبة على ازدواجية اللغة في التعليم, فإنّ الدّراسات التي أجريت في النّصف الأول من القرن العشرين قد أكّدت على وجود ظاهرة الإعاقة اللغوية عند الأطفال الذين يتعلمون لغتين. لقد اعتمدت تلك الدّراسات على مقارنة مستوى الأطفال الذين يدرسون لغة واحدة بالأطفال الذين يدرسون لغتين, ووجدت أنّ هؤلاء يعانون من قصور لغوي بالمقارنة مع الفئة الأولى. اتضح ذلك القصور في مجالات وقدرات لغوية خاصة بالمفردات ومعانيها وفي الكتابة الإنشائية والقواعد. لقد حاول الأستاذ ماكنمار تعليل ذلك بما أسماه “عامل التوازن” حيث يكون التحصيل في اللغة الثانية دائماً على حساب استيعاب مهارات اللغة الأم. أمّا الدّراسات التي أُجريت في النّصف الثاني من هذا القرن حول آثار تعليم لغتين معاً فقد توصّلت إلى نتيجة مفادها أنّ أطفال اللغة الواحدة كان أداؤهم ونتائجهم أفضل من أداء ونتائج أطفال اللغتين في القدرات الكتابية. كما أكّدت هذه الأبحاث أنّ أطفال اللغتين يعانون من بعض المصاعب والإعاقة اللغوية المرتبطة باجتهادهم من أجل التمكّن والتّأقلم مع نظام اللغتين » .
وللاستزادة حول ذلك يمكن مراجعة :
_ « اللغة والهدر المالي » للدكتور/ عبدالعزيز الثنيان _ وكيل وزارة المعارف سابقاً وعضو مجلس الشورى. نُشر في جريدة الرياض.
_ « لغة تعلم وتعليم » لوزير التربية والتّعليم سابقاً الدكتور/ محمد أحمد الرشيد .
_ « رأي في تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية » لمشرف اللغة الإنجليزية بوزارة المعارف/ راشد بن حسين العبدالكريم .
_ « بعض مخاطر تعلّم اللغة الأجنبية على اللغة العربية في مرحلة الطفولة » للدكتورة/ أميمة منير جادو.
_ « كارثة السنة التحضيرية » للدكتور/ مازن مطبقاني.
إنّ وجود حالاتٍ فرديةٍ نجحت في التمكّن من لغتين فأكثر؛ لا يسوّغ لنا أنْ نعمّم ذلك على أبنائنا من طفولتهم المبكّرة. فنرهقهم ولا نراعي حينئذٍ فروقهم الفردية، ونهدم بذلك ركائز أساسية، وأصولاً مقرّرة في منهجية التعليم السّليم منها: التّركيز في التّعليم، والتّدرّج في التّعليم، والبعد عمّا يشتّت ذهن المتعلم .
وقد استفاد العلماء ذلك من قول الله تعالى :
( مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَ‌جُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) الأحزاب _ 4 .
وأكّده واقع البشرية، وأخذت به الأمم التي توقّر لغتها وتعتزُّ بها، ونهج أكابر العلماء على اعتبار ذلك ومراعاته، حتّى قال بعضهم :
وفي تزاحمِ الفنونِ المنعُ جا إذ توأمانِ ازدحما لن يخرُجَا
وها هو خبير العلوم العبقري الجهبذ العلامة ابن خلدون _ رحمه الله _ يقرّر في مقدّمته ويقول: « ومن المذاهب الجميلة والطّرق الواجبة في التعليم: أن لا يخلط على المتعلّم علمان معاً، فإنّه حينئذٍ قلّ أن يظفرَ بواحدٍ منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهّم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة».
إنّ تعميم هذا القرار بهذه الطّريقة، في ظل ضعف ملموس لدى كثيرٍ من الطّلاب في التمكّن من لغتهم العربية قراءةً وكتابةً. وحاجتهم إلى التّركيز وابتكار السبل والوسائل لتعزيز لغتهم المستهدفة؛ لهو أمر وقرار خاطئ، وفيه من الإضرار والتعدّي على الطّلاب والأهالي وعلى العملية التعليمية الرشيدة الشيء الكثير. وإنّ التزام ما عليه الوزارة من عدم تعميم ذلك على مدارس التعليم الحكومي في صفوفها الأولية أولى من اختراعات وقرارات تحمل معها بذور الفشل.
والعجيب أنّ القرار بدء تنفيذه وزيدت أنصبة الحصص على الطّلاب، ولمّا تعدّ الخطّة والمناهج بعد، كما حدّثني بذلك بعض معلمي اللغة الإنجليزية في الصّفوف الأوّلية، وحيث لم توزّع الكتب على الطّلاب إلى حين كتابة هذه السّطور؛ ممّا يوحي بوجود الارتجالية والعشوائية في القضية برمّتها. وأنّها ربما جاءت استحساناً واستجابةً للكتابات الصّحفية السّطحية، وانهزاماً أمام ضغوطات العولمة الخارجية. والذي ينبغي أن تحترز منهما وتتورّع عن التأثّر بها صروح العلم الكريمة؛ إذ يُفترض أن تكون متبوعة لا تابعة، مؤثّرة لا متأثّرة .
لست أشك أنّ هذا القرار لم يأت بعد السؤال والتواصل مع الأكادميين المتخصّصين من ذوي الشّأن في جامعاتنا. كما لم يأت بعد مناقشة واسشارة لأهل التجربة والميدان من معلمي اللغة العربية الذين يجهدون ويكابدون أشدّ المكابدة كي ينطلقوا بأيدي وألسنة الطلاب في لغتهم العربية المباركة. فيبذلون الجهود الكبيرة ويستغرقون الأوقات الطّويلة والتي قد لا تكفيها سنيّ الصّفوف الأولية. حيث التدريب والتّكرار للطّلاب المستجدّين مع اختلاف قدراتهم على كتابة الحروف والكلمات، ثم الانتقال إلى الجمل وتكوينها والربط بينها، يلي ذلك التدريب على الإملاء وقراءة القطع الطّويلة نسبياً.
يليه الانتقال إلى تعليم قواعد النّحو ومفردات العربية. في عملياتٍ تراتبية وتراكمية متواصلة؛ حتى يألف الطّالب لغته الأم، وتتكون لديه الملكة والقدرة التي تمكنّه من التواصل بطلاقة مع من حوله نطقاً وكتابةً.
ولا أشك كذلك أنّ من اتّخذ القرار لم يعد استبانة لاستطلاع آراء المعنيين بالقضية والموضوع.
وللأسف فهو نموذج يبين الآلية والعقلية التي تدار بها كثير من الأمور التي لها تعلق بالآخرين، ومن الواجب أن يكون لهم فيها رأي. ثم يغيرُ عليها من يستأثر بالحكم والرأي مستغلاً نفوذه ومنصبه، غير آبه بحقوق الآخرين في أعزّ ما يملكون وهو تدريس أبنائهم! غيرَ متفهّمٍ ولا مجيدٍ لمفهوم الحوار واحترام الآراء، الذي هو سمة من سمات المجتمعات المحترمة والمتحضّرة.
إنّ بعض الدّول الاسكندنافية والغربية تعد تعليم لغة أخرى أجنبية للأطفال قبل أن يتعلموا لغة بلدهم ودولتهم؛ جريمة يعاقب عليها القانون. ولا يخفى اعتزاز الإنجليز والفرنسيين والألمان بلغتهم، وكيف يضعون القيود والضوابط لتبقى مكانتها في الصدارة. ويمنعون ويقنّنون ويحذّرون من وسائل الغزو الثقافي والفضائي الذي قد يؤدي إلى اكتساحها وصهرها.
وعليه .. فلا يليق أنْ نتعامل بهذه الطّريقة مع لغتنا الضّاربة في التّاريخ والحضارة .. لغة الوحي والقرآن ؟! .
لا ينبغي أن يعالج الخطأ في فشل تدريس الإنجليزية في المتوسطة والثانوية بتعميم تدريسها في الابتدائية وفي الصّفوف الأولية .. هكذا ! وبدون هدى وبصيرة. بل ينبغي أن تدرس أسباب الفشل وتعالج في مكانها.
إنّ في تعليمنا _ بحمد الله تعالى _ الكثير من الجوانب المضيئة والمتميزة، والإنجازات الرائعة. التي تحقّقت على أيدي الخيّرين والمخلصين من المسؤولين والمعلمين، والمثابرين من الأسر والطّلاب؛ وخشيةً عليها من الضّياع، ومن عوادي الدّهر كان لزاماً أن نكتب، وأن يكتب غيرنا من أهل المسؤولية والشأن؛ إذ التّعليم أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة، وكلٌّ مسؤول عن أمانته ورعيته أمام الله تعالى، وأمام النّاس والتّاريخ. وليس النّقد والتّواصي والتّناصح إلا دعامة من دعائم النّمو والقوة والبقاء.

http://www.ynbu.com/15/09/2012/71035/

</I>
</B>