ديك الجن الحمصي
مما طالعته عن هذا الشاعر الفحل أحببتُ أن ألخص لكم بعضا من سيرته الحافلة بالشعر والأدب والإبــداع ..

هو عبد السلام بن رغبان , الملقب بديك الجن وهو واحد من أهم الشعراء العرب في العصر العباسي الأول ،عاش ديك الجن في أوساط أسرة متعلمة معروفة , تقلب بعض رجالها في أعمال الدولة , فكان من الطبيعي أن تدفع الصبي إلى المسجد , حيث حلقات الدرس ومجالس العلماء . وفي المسجد تلقى علوم عصره , فوعى علوم اللغة والأدب والدين والتاريخ , وحصّل كماً جيداً من المعارف , كان موضع فخره , فهو يقول :‏

[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/6.gif" border="solid,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] ما الذنب إلالجدّي حين ورّثني =علماً وورّثه من قبل ذاك أبي
‏[/poem]

وعاش في هذه مدينتة حمص حياته الحافلة التي امتدت قرابة خمسة وسبعين عاماً وتوفي عام 236هـ
اشتهر بمأساته الفاجعة مع زوجته وحبيبته ( ورد ) التي قضت على يديه مقتولة بسيف غيرته0
فقد أحب ورد المغنية وقيل إنها جارته النصرانية التى اشتهرت بالجمال و بالفصاحة والبراعة وكان يهواها وتمادى به العشق ،فلما أشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها فأجابته لعلمها برغبته فيها وأسلمت على يده فتزوجها وفي ذلك يقول :

[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/6.gif" border="double,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
لم تبك عينك أبيضاً في اسود= جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسمها =من ريقها من لا يحيط بخبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها= عجباً ولكني بكيت لخصرها
تسقيك كأس مدامة من كفها =وردية ومدامة من ثغرها

[/poem]

ثم وصله خبر أنها تهوى غلاماً له ، وكانت تلك مكيدة من أحد أعدائه ، فاخترط سيفه فضربها به حتى قتلها وقال في ذلك :

[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/6.gif" border="double,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
ليتني لم أكن لعطفك نلت =والى ذلك الوصال وصلت
فالذي مني اشتملت عليه=كان عارا ما قد عليه اشتملت
قال ذو الجهل قد حلمت ولا= أعلم أني حلمت حتى جهلت
لائم لي بجهله ولماذا ؟= أنا وحدي أحببت ثم قتلت
سوف آسى طول الحياة وأبكيك =على ما فعلت لا ما فعلت

[/poem]

ثم بلغه الخبرعلى حقيقته وصحته واستيقنه فندم على قتلها فقال :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]

ياطلعة طلع الحمام عليها= وجنى لها ثمر الردى بيديها
رويت من دمها الثرى ولطالما =روى الهوى شفتي من شفتيها
وأجلتُ سيفي في مجال خناقها= ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وماوطىء الثرى= شيء أعز علي من نعليها
ماكان قتليها لأني لم أكن=أبكي اذا سقط الذباب عليها
لكن ضننت على العيون بحسنها =وأنفت من نظر الحسود إليها
[/poem]

وتقول الروايات انه حرق جثتها ، وصنع من رمادها كأسا صار يشرب فيها الخمر.. !!!
وديك الجن الحمصي تكتنف سيرته الاسطورة،ويلفها الغموض،ولم تحظ بالدراسة الكافية.. والذين كتبوا عن سيرته أجمعوا تقريبا بأنّ لهذا الشاعرمكونات ثقافية ممتازة من اللغة والأدب والتاريخ ظهرت بوضوح في شعره. فوعيه لعلوم اللغة جعله مالكاً لناصيتها، قادراً على التصرّف بها، واستيعاب مفرداتها، وتوظيف دلالاتها المعنوية لإبراز أفكاره ومعانيه ، مع سلامة من اللحن ، ووقف ديك الجن طويلاً عند الشعر الجاهلي عامّة ، وشعر الصعاليك خاصة. وقد أعجب بالصعاليك وفلسفتهم القائِمة على التمرّد والرفض، بل لقد فاق صعاليك الجاهلية في تمرّده ورفضه، فرأى فيهم أطفالاً رُضّعا إذا ما قيسوا به. فهو القائل يصف نفسه:
[poem=font="Simplified Arabic,5,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]

وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ= ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ
ما الشَنْفَرَى وسُلَيْكٌ في مُغَيَّبَةٍ =إلا رَضِيـعا لَبـانٍ في حِمىً أَشِبِ

[/poem]

لقد عاش ديك الجن قمة الثقافة والازدهار الحضاري في العصر العباسي، وكان على الشاعر أن يكون مثقفاً، مُلِمّاً بفنون عصره وعلومه، ليتمكن من السير في زحمة حركات الإبداع والتجديد، ولا يخفى على العارفين التطوّرُ الكبير الذي وصل إليه فنّ الموسيقى والغناء في زمنه وانتشار المغنيّن والمغنيّات من كلّ لون وجنس
وديك الجن واحد من عشاق الغناء والموسيقى ...أقبل ديك الجن على الغناء إقبال المشارِك المبدع، فتعلم العزف، وأتقن قواعد الغناء، ولقد غدا ما تعلمّه في هذا الباب، جزءاً من مكوّناته الثقافية والفنية. كان حسن الصوت، مجيداً للضرب (بالطُّنْبُور)، وكان يتغنّى بشعره، لنفسه، أو لندمائه الذين كانوا يتحلّقون حوله في مجالس الشراب، (وقيل إنه متشيع ولكن تشيّع ديك الجن يوصف بالتشيع الحسن وله مراث في الحسين .. وهذا لا يعني أنه كان إنساناً متديّناً، مطبقاً لما أمر به الإسلام أو نهى عنه، لقد كان هناك انفصال تامّ بين انتمائه السياسي ومواقفه الدينية. يقول أبو الفرج على لسان ابن أخي ديك الجن : " كان عمّي خَليعاً ماجناً"). (أما (تشكّكه) بوجود اليوم الآخر والحساب، فقد اتّخذ طابعاً أكثر حدّة، وصل به إلى الانفجار والتصريح بعدم إيمانه بالقيامة والبعث. وربما كانت هذه الحدّة نابعة من التمرّد والتحدّي، والتصدي للوعّاظ الذين يلاحقونه في كل مكان، مذكّرين بالموت والحساب، والجنةوالنار. إنه في البداية يجنح إلى مناقشتهم مناقشة تنطوي على الكثير من الاضطراب والقلق والتردّد والشك، فإذا كانوا كاذبين في ادّعائهم بوجود الحياة الآخرة، فقد أَمِنَ ونجا من العقاب عمّا اقترفه من آثام، أما إذا صدقوا فإنه سينجو أيضاً، لأن الله هو الذي ابتلاه بهذه الآثام، وهو الذي سيسامح ويعفو، وما ذنبه فيما قدّر الله لـه ؟! ثم ينفجر بغتة غفر الله له ، معلناً عدم إيمانه بالقيامة، قائلاً :
[poem=font="Simplified Arabic,5,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
هيَ الدُّنيا وقد نَعِموا بأُخرى=وتسويفُ النّفوسِ من السَّوافِ
فإنْ كذبوا أمنتَ وإنْ أصابوا=فإنّ المبتليـكَ هو المعافـي
وأصدقُ ما أبثُّك أنَّ قلبـي =بتصديقِ القيامةِ غيرُ صافي
[/poem]

إن هذا التصريح وأمثاله دفع الناس إلى اتهامه بالإلحاد (على أنّ من أطرف المواقف من ديك الجن ومعتقده، موقفَ أبي العلاء المعري الذي كان متعاطفاً مع أخيه في الشعر، ولذلك فقد منحه البراءة من تهمة الإلحاد. يقول في (رسالة الغفران) : " ورأى بعضهم عبدَ السَّلامِ بنَ رغبانَ المعروف بديك الجن في النوم، وهو بحُسن حال، فذكر له الأبيات الفائية التي فيها : هي الدُّنيا وقد نَعموا بأخرى وتسويفُ النفوسِ من السَّوافِ
أيْ الهَلاك. فقال : كنت أتلاعبُ بذلك ولم أكن أعتقدُه.)
واستنتج من كتبوا عنه أنه بسبب عصيانه وإدمانه لم يعرف الفاضلات. وعرف الكثير من الساقطات وبنات الهوى والمال والموال، وأهل مجالس المجون والخمر، وما إلى ذلك. ولم تكن لديك الجن علاقات واسعة برجالات عصره، فهو لم يبرح بلاد الشام قطّ، كما تقول معظم كتب التراث، وأغلب الظنّ أنه قضى معظم أيام حياته في مدينة حمص وسط سورية، ولم يَفِدْ على بلاطات خلفاء الدولة أو وزرائه وأمرائه، لأنه لم يكن شاعراً مدّاحاً متكسّباً بشعره ؛؛ ربما لتوجهه السياسي ومزاجه النفسيوظروفه. ورغم ذلك كان معروفا بالشعر ومشهورا بالمجون.

و من شعره أيضا :
[poem=font="Simplified Arabic,6,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/6.gif" border="double,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
بكاكَ أَخٌ لَمْ تَحْـوهِ بِقَرابَةٍ=بَلَى إنَّ إِخْوانَ الصَّفَاءِ أَقَارِبُ
وأَظْلَمَتِ الدُّنْيا التي كُـنْتَ جَارَهَا= كأنَّكَ للـدُّنْيا أَخٌ ومُنَاسِبُ
يُبَرِّدُ نِـيْرانَ المَصَائِبِ أَنَّني أَرَى= زَمَناً لَمْ تَبْقَ فيهِ مَصَائِب

[/poem]