معاناة أهالي ينبع

كما كانت جدة البوابة البحرية لمكة المكرمة كانت ينبع البحر فرضة (ميناء) المدينة المنورة وممر الحجاج القادمين لزيارة مسجد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ينبع والمدينة المنورة ليستا في حال أفضل من جدة ومكة المكرمة في وفرة المياه، فندرة الماء النقي مشكلة عمت كل أرجاء الجزيرة العربية تقريبا، وإن كانت الحال في مناطق محدودة أفضل من غيرها فستظل محدودة وبكميات لا توصف بالوفرة، لكن وضع جدة وينبع يختلف لارتباطهما بمكة المكرمة والمدينة المنورة حيث أفئدة المسلمين تهفو إليهما في مواسم الحج والعمرة والزيارات الدينية.


ويرد اسم ينبع في كتب التاريخ بصور متعددة «ينبع» و«النبع» و«الينبوع»، والصواب ما اتفق عليه المؤرخون هو «ينبع»، والاسمان الآخران تحريف للأول، فالأول يكثر في مؤلفات أهل القرن الثامن عشر كالمقريزي والقطبي وابن إياس الحنفي والنابلسي، بل إن أكثر مؤلفات المؤرخين قبل القرن الثامن عشر يذكرون الاسم الأول «ينبع»، وينبع على إطلاقه في مؤلفاتهم يقصد بها ينبع النخل، وينبع اسم دال على وفرة عظيمة للمياه، وهو ما يفسر كثرة بساتين النخيل فيها. وينبع البحر هي الفرضة (الميناء) الذي يستقبل زوار المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة والقادمين بحرا، وعلى عكس ينبع النخل بوفرة مياهها كانت ينبع البحر تعاني الأمرين من ندرة المياه العذبة، وقد زارها الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي عام 1105هـ.


بازان لتوزيع المياه


ومثل جدة كان أهل ينبع يعتمدون على صهاريج تجميع مياه الأمطار وبعض الآبار حولها يجلب منها الماء في الصفيح والقرب وعلى الدواب لتأمين احتياجاتهم الضرورية فقط، وكانت ينبع ليست استثناء من الحكم التركي للدول العربية في شخص الدولة العثمانية، هي ذات الصوت المرتفع للإغاثة من مخالب العطش المميت، خاصة ما حدث في موسم حج عام 1320هـ حيث قلت المياه وغلا ثمنها بل كان يرتفع كلما شاءت أهواء أصحاب البرك والصهاريج، الذين أغنوا أنفسهم من أموال المسلمين - فقراء ومساكين - وأصبحت ينبع، التي هي فرضة المدينة في أسوء حال، كما أن كثيرا من الحجاج قد نابهم من الشدة مثل نفس الحال، وكانت الحكومة المصرية تابعة للدولة التركية، وبحكم صلة القربى مع المصريين، عرقا ولغة ودينا، تقدم أهالي ينبع البحر في تاريخ 2 محرم 1321هـ بطلب إلى وزير الحج المصري اللواء إبراهيم رفعت باشا، يطلبون منه النظر في شكواهم من عدم توفر مياه الشرب، وكان الطلب إياه يتضمن اقتراحين: أحدهما إلغاء فكرة الاعتماد على جلب المياه من العيون، لما يسببه من تكاليف باهظة، وكونه مصدر استغلال لأصحاب البرك والصهاريج وعرضة للتلوث والاعتداء من قبل العابثين، والاقتراح الآخر: مدهم بآلة بخارية تخرج لهم من بحرهم ماء صالحا للشرب، وتكون تحت إرادتهم وإدارتهم عن قرب.

وقد راق هذا الطلب الأخير للوزير اللواء إبراهيم رفعت باشا، وفعلا صدرت به الإدارة السنية بعمل «تصنيع» آلة لتقطير المياه من البحر لمدينة ينبع، وحدد لوصولها خمسة أشهر فقط، لكن مضت سنتان ولم تصل الآلة (الكنداسة) باللغة التركية، وطال الانتظار.

وعندما تحدث وزير الحج المصري مع ناظر الداخلية تقرر إرسال الباخرة المسماة «ينبع» إلى ينبع المدينة لتقيم على ثغرها لمدة ثلاثة أشهر في السنة من أجل مد أهلها والمقيمين بها بالماء المقطر العذب، لكنها كانت فرحة لم تكتمل، أو يبدو أن المكلفين بهذا الأمر لم يدركوا أهمية التوفيق الزمني لسد حاجة المدينة من الماء الصالح للشرب، فالباخرة لم تصل ينبع إلا في 8 محرم 1322هـ أي بعد نهاية موسم حج عام 1321هـ بنحو شهر كامل.

وفي آخر عهد الولاية التركية للحكم البلاد، أمكن جلب آلة (كنداسة) مقيمة على مرفأ ينبع لتقطير مياه البحر وإمداده عذبا للأهالي والمقيمين.

وإذا ما حضر الحجيج في موسمه ضاقت مدينة ينبع ذرعا بحالها من نقص في الخزانات لحفظ الماء ونقص آخر في جهاز الآلة الإداري لتوزيع الماء، وبهذا كانت الجدوى من وجود آلة التقطير (الكنداسة) ضعيفة، لأن قلة العالمين فيها وقلة الصهاريج بها أدت إلى شدة الزحام، فضاع حق الضعيف، وتلوث المياه واشتد الصراع بين الأقوياء، فلم يبلغ الشخص العادي غرضه منها، ولم تعد آلة التقطير (الكنداسة) مع ما تكلفه من نفقة كبيرة، تفي بحاجة المدينة من المياه.

وفي خضم الصراعات الإقليمية والدولية ونشوب الحرب العالمية الأولى خلال الربع الأول من القرن العشرين كانت النزاعات القبلية تعصف بالمنطقة العربية، حربا أهلية مدمرة تغذيها الفتن معقل الانقسامات، وكان (ابن سعود) عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود قد ظهر زعيما غيورا على وحدة البلاد بأكملها رافضا بشدة، وإن دعت الحاجة إلى محاربة من يدعو إلى خلاف الوحدة الوطنية للبلاد، لهذا المبدأ في شخص الملك عبد العزيز الذي كان دافعه صفاء العقيدة وقوة التوحيد هبت البلاد بقبائلها وكافة أطياف المجتمعات ولاء وطاعة، ولبت جميع الأقاليم دعوة هذا الرجل العظيم مدركين أهمية التآخي والتكاتف والتعاون متحدين تحت راية الزعيم القادم (ابن سعود) كما كان يسمى.

ويذكر التاريخ أنه دخل المسجد الحرام عام 1342هـ فوجد أن الصلاة فيه تقام على انفراد لكل مذهب على حدة، أو ما يعرف بـ«المقامات»، فأمر بوحدة العقيدة، وأن يكتفى بإمام واحد أيا كان مذهبه من المذاهب الأربعة، ليؤم المصلين جميعا، فكانت الإمامة على المذهب الشافعي آنذاك..


للحديث بقية إن شاء الله