معاناة أهل جدة
ولعل توفير مياه الشرب لسكان مدينة جدة كان الهم الشاغل لحكامها وسكانها على مدار تاريخها الطويل، حيث نشأت المدينة على شاطئ البحر الأحمر خالية لا نقول من العيون المتدفقة والأنهار الجارية بل من أبسط وأقل مصدر مياه عذبة، فسطح أرضها مشبع بالأملاح ودرجات حرارتها مرتفعة وأمطارها قليلة وغير منتظمة.
فبالكاد يجد ساكن جدة ماء ليروي ظمأه، أما الاحتياجات الأخرى كالوضوء أو الاغتسال أو ترطيب الأجسام خاصة خلال فترات ارتفاع الحرارة والرطوبة، وما أطولها في جدة كل عام، فأهل جدة يرونها من رغد العيش الذي تنعم به النخبة فقط، وهذا بالضرورة دفع أهلها للبحث عن أي مصدر للمياه لسد احتياجاتهم الضرورية، وكانوا يلجؤون إلى حفظ مياه الأمطار بطريقة تجميعها من أسطح المنازل عبر مخارج أنبوبية تتدفق إلى خزانات أرضية بنيت لغرض تخزينها وهذه الطريقة كانت معروفة قبل مئات السنين عند أهل الشام، خاصة في فلسطين. إلا أن هذه الوسيلة كانت قاصرة عن حد الاكتفاء الأدنى. ويقومون بجلب المياه من الآبار البعيدة جنوبا عن جدة وبمسيرة يوم كامل. ويتم تخزينها في صهاريج داخل منازلهم. وقد اعتاد الحجاج أن يطلبوا الماء من أصحاب البيوت في جدة وأصحاب البيوت يرون أن تقديمه للحاج حق «للسائل والمحروم» فيؤثرونهم على أنفسهم بقليله على حاجتهم وإن كان فاقد الشيء لا يعطيه.
صهريج لتجميع مياه الأمطار
ويذكر بعض المؤرخين أن الصهاريج استخدمت في جدة قبل ظهور الإسلام وبعده، ويؤكد بعضهم أن جدة كانت محاطة بأعداد كثيرة من الصهاريج من داخلها ومن خارجها بمختلف المقاسات، خوفا من ضياع الماء، وظل استعمال الصهاريج أهم مصادر مياه الشرب في جدة، وكانت الصهاريج خارج أحيائها لحفظ المياه على شكل برك كبيرة وعميقة تمتلئ بالمياه عند هطول أمطار غزيرة. أما الصهاريج داخل المدينة فكانت لغرض الاستعمال المباشر، ويذكر المؤرخون أنها كانت أكبر حجما وأكثر اتساعا في عهد المماليك.
بركة لتجميع المياه
وفي بداية القرن العاشر الهجري اهتم قانصوه الغوري - آخر سلاطين المماليك - بمعالجة أزمة ندرة المياه في مدينة جدة، وقرر أن يجلب لها عينا جارية، فوفر مالا كثيرا، وأجرى دراسات مستفيضة، حتى تمكن من جلب مياه عين وادي قوص الواقع شمال الرغامة شرق مدينة جدة. وهي عين جارية تقع تحت جبل هناك.
وسميت هذه العين بالعين الغورية، وأحيانا تدعى بالعين القنصوية. نسبة إلى اسم السلطان المملوكي، وبذلك عرفت جدة مياه العيون. بدلا من صهاريج تجميع مياه الأمطار وتخزينها ومن ثم نقلها إلى خزانات داخل المنازل في المدينة. وقد استمر جريان العين الغورية حتى القرن الحادي عشر الهجري، ولكن بشكل متقطع، وعلى فترات من الإصلاح تطول في بعض الأحيان إلى حد العجز التام عن توفير حاجة الأهالي من المياه.
وفي نهاية العقد السابع من القرن الثالث عشر الهجري وبالتحديد في عام 1370هـ نهض تاجر من أهالي جدة اسمه «فرج يسر» وهو بالفعل اسم على مسمى فرج ويسر، وأخذ يجمع المزيد من التبرعات وذلك لغرض إصلاح العين «الغورية»، وإعادة جريانها، وقد تم له تحقيق ذلك، وجرت العين من جديد، واستقت جدة من المياه العذبة من هذه العين، واستمر جريانها إلى أن اعتراها الضعف وانقضى عمرها مع عمر من نهض بها - فرج يسر - يرحمه الله - وذلك في عام 1302هـ.
عين فرج يسر رحمه الله
وفي نفس العام اهتمت حكومة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بمعالجة ندرة المياه في مدينة جدة، فقام الوالي التركي على جدة بجلب المياه من عين تبعد عشرة كيلومترات فقط من المدينة سميت بالعين الحميدية، وبطبيعة تكوين هذه العين ولقربها من جدة المدينة، فإن مياهها مالحة وتتأثر مباشرة بهطول الأمطار، فإذا أمطرت السماء عذبت مياه العين، وإذا قلت الأمطار زادت ملوحة العين، وأهالي جدة بين هاتين الحالتين تغمرهم الفرحة بوصول مياه العين الحميدية عذبة أحيانا، وتشتد بهم الأزمة معاناة من ملوحة العين الوزيرية، كما يدعونها أحيانا أخرى.
والجدير بالذكر أن العين الوزيرية أو الحميدية نسبة إلى اسم الوالي التركي على جدة، مرة، ونسبة إلى السلطان التركي مرة أخرى، وعند إيصال الماء منها إلى المدينة كان بأسلوب شبه حديث، حيث تمت عملية توزيع المياه في قنوات من أنابيب على جميع أحياء المدينة، ورغم كل السلبيات فإن أهالي مدينة جدة قد عمتهم الفرحة بوصول مياه هذه العين إليهم مباشرة.
تلك كانت حال جدة البوابة البحرية لمكة المكرمة حيث بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وحيث بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة في عرفة ومنى ومزدلفة.
للحديث بقية إن شاء الله
المفضلات