إلى أخي أبو ثامر والقراء الكرم
مر علي في حياتي العملية معلمان تصلح سيرتهما لأن تروى في هذا الباب .
أحدهما عين عندنا حديث عهد بالتدريس .. كان نحيفا قصير القامة لا تكاد تميزه عن بقية الطلاب لولا العقال لذي يعلو هامته .. اشفقنا عليه حينها ، ودارت في أذهان الجميع التساؤلات : كيف سيستطيع التعامل مع الطلاب ؟ أسند إليه تدريس اللغة العربية في الصفين الرابع والخامس ، وكان الفضول يدفع زملاءه للمرور من أمام فصله ليروا كيف يتمكن من ضبطه وكانوا يفاجؤون بأن الطلاب يتابعونه باهتمام بالغ وانضباط غريب .
والأغرب من ذلك أنه لم يكد يمضي شهر من الدراسة حتى تمكن هذا المدرس وسوف أرمز له بحرف ط (أول حرف من اسمه ) من معرفة جميع طلاب المدرسةالذين يدرسهم والذين لا يدرسهم ويناديهم بأسمائهم ، بل ويعرف أسماء آبائهم ، وإخوانهم في المدارس الأخرى ، ، وكان الطلاب ينتظرونه كل صباح على باب المدرسة ، فإذا ما أكمل توقيعه في سجل الدوام عاد إليهم ، واتخذ له كرسيا في ركن قصى فترى الطلاب من جميع الفصول يتحلقون حوله ، ويتجاذبون أطراف الحديث معه ، ويتبادلون الطرائف والنكت
ويخبرونه بما يفعلونه خارج أوقات الدوام ، وكان يستمع إليهم باهتمام بالغ ، و يسأل كل طالب عن أبيه وأخيه وصاحبه ، بل أن علاقاته امتدت لتشمل بعض أولياء الأمور ، وكان كثير منهم يأتي للسؤال عنه والسلام عليه ، وبعض الطلاب تقدموا بطلب للإدارة بأن يدرسهم ، وكانوا لا يدعونه يجلس معنا في غرفة المدرسين رغم حبه لذلك فما يكاد يدخلها حتى يتجمع الطلاب على بابها يطلبون منه أن يخرج إليهم ، فيخرج إليهم بابتسامة راضية وبشاشة ملحوظة حتى في أحلك الظروف .. وكنا إذا طلبنا من الطلاب أحيانا الحضور في وقت العصر بادرونا بالسؤال : هل سيحضر الأستاذ ( ط) ، وإذا عزمنا القيام برحلة سألونا نفس السؤال ، وعند توزيع الجماعات يأبى الجميع إلا أن يكونوا في الجماعة التي يرأسها .
وكان فصله منضبطا بشكل غريب ، وكان أقسى عقاب يمكن أن يوقعه على طالب هو قوله له : ( هاه .. أزعل منك ترى ) !!
وعندما انتقل هذا المدرس أصيب الطلاب بما يشبه الصدمة ، وبعضهم سألني : هل يمكن لو ذهبنا لإدارة التعليم أن تعيده لنا ، وقد عرفت أخيرا منه ( لأنني على اتصال به ) أن بعض الطلاب ما زالوا يتصلون به إلى الآن ، وبعضهم زاروه في جدة مع آبائهم .وفي إحدى المرات اتصل بي بعد سنوات يسألني عن حادثة حدثت لأحد الطلاب هنا لم أدر بها ، ونسيت الطالب نفسه لولا تذكيره لي به .
( أنه ظاهرة قل أن تتكرر )

اما المعلم الآخر فقد كان شيخا فاضلا كبيرا في السن عالما أزهريا جاءنا منقولا من إحدى الثانويات .. لاحظت عليه من أول احتكاك له بالطلاب العبوس والشدة والصرامة وتقطيب الحاجبين دونما داع .. سألته عن ذلك فرد على : ( دول عفاريت ) !!
حاولت إقناعه بأن تلاميذ المرحلة الابتدائية يختلفون عن طلاب المراحل العليا ، وأنه يمكن التعامل معهم باللين واللطف والابتسامة الحانية ، وبالذات من شيخ فاضل مثلك ، لم أجد عنده أدنى تجاوب .
وعلى الرغم من تلك الشدة والصرامة البادية ، إلا أن الضجيج الذي يصدره الطلاب في حصته يصم الآذان ، ويصلني صداه في الدور الأرضي .
دخلت عليه زائرا في إحدى المرات .. وجه للطلاب سؤالا في مادة الفقه . رفع الطلاب أياديهم اختار من بينهم واحدا أجاب جوابا خلته صحيحا ، وإذا بالمدرس يصرخ في وجهه بشكل غريب : هل هذا هو الذي علمناك إياه ؟ قال الطالب نعم قال المدرس ( وكمان تقول نعم ) أنت لاتفقه شيئا .. انت جالس في الفصل زي قلتك .
ساد الصمت والوجوم على الطلاب، أعاد عليهم السؤال وطلب من غير الطالب الإجابة ، فلاذوا بالصمت وكأن على رؤوسهم الطير ، فقال لهم : ألم نقل لكم كيت وكيت ؟ .
لا حظت حينها أن الجواب لا يختلف كثيرا عما قاله الطالب . . خرجت مستاء ، وما كدت أتجاوز الباب حتى ساد الهرج والمرج ، انتظرت قليلا سمعته يقول : ألم أشرح لكم هذا الدرس ؟ قالوا بلى . ألا تعرفون الجواب ؟ قالوا نعم . لماذا لم تجاوبوا بحضرة المدير قالوا : خفنا تقول لنا غلط كما قلت لزميلنا . وكانت المفاجأة أن قال لهم : أنتم مغفلين . أنتم بهائم !! أنتم حيوانات !! ، وكان الطلاب جميعا يردون وراءه آخر مقطع من الكلمة الأخيرة .. ايين .. ااائم .. ااات !!!
استدعيته وسألته عما حدث .. قلت له الطالب أجاب جوابا صحيحا ، وكان بإمكانك أن تقول له : أحسنت جزاك الله خيرا .. من يكمل الإجابة ؟ حتى تشجع طلابك على المشاركة لا أن توبخه أمام زملائه بهذا الشكل ، ثم أن هذه الألفاظ التي سمعتها لا يمكن أن أتصور صدورها من معلم وشيخ فاضل مثلك ، ولو أن الطلاب نقلوا إلى أهلهم ذلك لما رضوا عنه ولوجهوا إليك تهمة السب العلني والقذف . ولأقاموا عليك قضية في المحكمة الشرعية .
يجب عليك أن تعاملهم باللين ، فهم بمثابة أبنائك ، ورغم شدتك وصرامتك المصطنعة إلا أنك لم تستطع ضبط فصلك بهما ، فجرب معهما أسلوبا آخر .

الشاهد في القصتين أن المدرس الأول استطاع ضبط فصله بالحب فقط ولا شئ آخر ، بادل طلابه حبا بحب ، وتقديرا بتقدير ، وأدى رسالته كأحسن ما يكون الأداء ، وما زالت ذكراه الحسنة عالقة بنفوسهم إلى ما شاء الله لها أن تبقى .
أما الآخر فلم تنفعه شدته وصرامته وتجهمه وسبابه في أن يفرض شخصيته أو أن يبقي له في نفوس طلابه ذكرى .

أرجو أن يكون في ما ذكرت بعض العبرة ، وأشكر أخي أبو ثامر على إثارة هذا الموضوع الحيوي الهام .