مقالة جميلة تعبر عن الحنين للأوطان أنقلها لكم ـ اليوم الاثنين, 17 أغسطس 2009


ما أطيبكِ من بلد!!
نسيم الجهني - العيص

(ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ ! ولولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَك)، رواه الترمذي.
ما أروعَكِ من كلمات!
كلمات قالها الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن تعلُّق كبير بأرضه “مكة المكرمة”، وحب عميق لكل ما فيها.. إنه حب الديار..
هذا ما تذكّرته حين خروجنا من ديارنا، وما أقساه من خروج، وما أشده!!
لقد تألّم الجميع لهذا الخروج، ومع هذا فإن الصبر والرضا بقضاء الله لازال قائمًا بينهم ولله الحمد والمنّة..
ولكن تبقى الغربة غربةً، والهجرُ هجرًا، ويبقى ترابُ العيص خيرًا من الغربة التي نعيشها، فنحن نألف ديارنا ونهواها حتى وإن لم تتوفر فيها مقومات الحياة البسيطة.. وكثير لا يدرك كيف أن هواءها عليل لنا ولو كان محمَّلاً بالغبار، وماءها عذب فرات ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارًا..
بلادٌ ألِفناها على كلِّ حالةٍ
وقد يؤْلَفُ الشيءُ الّذي ليسَ بالحَسَنْ
وتُستعذَبُ الأرضُ التي لا هَوَاْ بها
ولا ماؤُهَا عَذْبٌ ولكنّها وطَنْ
إن هذا الحدث حمل بين جنباته الكثير من العبر واللطائف والحكم، ولكنها لم ولن تتبين إلاّ لمن تأمّلها فقط ..
أردت أن أقف على واحدة من تلك اللطائف وهي:
“يسر التكاليف الشرعية وثواب الالتزام بها”
لنتأمّل كيف أنه لما كان الخروج من الوطن يبعث على كل هذا الحزن، ويُسبِّب كلَّ هذا الألم، قرن الله -عز وجل- حبَّ الأرض في القرآن الكريم بحبِّ النفس: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ). “النساء 66”.
فما حصل لأرض العيص من الهزات الأرضية جعلتني أتذكر هذه الآية الكريمة.. وأتأمّل لطف الله بهذا الكائن البشري الضعيف، وكيف أنه سبحانه وتعالى يعلم هذا الضعف، ويرحم هذا الضعف. وهو يعلم أنه لو كلّفنا بتكاليف شاقة، ما أدّاها إلاَّ قليل منّا، فهو لا يريد لنا أن نقع في المعصية؛ ومن ثم لم يكتب علينا ما يشق.. لا إله إلاَّ الله ما أجملها من شريعة ميسرة، وما أعظمه من قضاء رحيم.. يوم أنه لم يكلفنا شيئًا فوق طاقتنا، ولم يكلّفنا عنتًا يشق علينا، ولم يكلفنا التضحية بعزيز علينا.. ومع هذا اليسر لو أننا استجبنا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله علينا، واستمعنا للموعظة التي يعظنا الله بها؛ لنلنا خيرًا عظيمًا في الدنيا والآخرة..
تأمّلوا: (قتل النفس، والخروج من الديار).. مثلان للتكاليف الشاقة، التي لو كتبت علينا ما فعلها إلاَّ قليل منّا، وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس؛ بل المراد أن يؤديها الجميع، وأن يقدر عليها الجميع..
إذن إدراك هذه الحقيقة يذكرنا بحجة من يزعم أن واقع (الإنسان) وفطرته وطاقته تلزمه بأخذ ما يستطيع من الدِّين، وترك ما لا يستطيع، بمعنى يعمل ما يوافق هواه، ويترك ما لا يوافقه: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، وأن الاستقامة وتطبيق التكاليف يحتاج إلى (مثالية) كي يلتزم بها المرء، ممّا ترتب عليه تقسيمات خاصة بأصناف للناس ما أنزل الله بها من سلطان! ولو أننا تأمّلنا هذا الإنسان لعلمنا أن الله لم يكلفنا ما لا نطيق.. وإنما الجهل والغفلة والهوى هو الذي أوصلنا لما نحن عليه الآن..
واللطيفة الأخرى التي خطرت لي في تلك الأحداث.. هي كيف أن الله جعل النفيَ والتغريبَ عن الوطن عقوبةً لمن عصى، وأتى من الفواحش ما يَستحق به أن يُعذَّب ويُغرَّب. هذا العقاب كثيرًا ما نسمع به، لكن لم نتذوق ألم الشعور به بفضل الله.. فسبحان الله الحكيم..
اشتاقت النفس، وحن القلب لتلك الأرض الطيبة.. وإن حدث أن ألفنا الجلوس في غيرها، فإن الحنين سيظل ملازمًا لها بلا ريب..
كمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلفهُ الفتَى
وحنينهُ أبدًا لأوّلِ مَنزلِ