أهلا وسهلا بك إلى المجالس الينبعاويه.
النتائج 1 إلى 1 من 1

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2002
    المشاركات
    703
    معدل تقييم المستوى
    24

    "سياحة بين الثقل والخفة في رائعة الكاتب الفرنسي «ميلان كونديرا» «كائن لا تحتمل خفته» (١-٢)"

    عندما تقرأ لكاتب عظيم مثل «ميلان كونديرا»، فسيأخذك بعيدًا في تأملاتك ويحلق بك في فضاء واسع من الخيالات تنسيك المراجعات والقراءات النقدية أو حتى الوقفات التأملية المحسوسة، فلا تنتبه إلا وقد قطعت شوطًا كبيرًا في القراءة وأنت لم تخفض بصرك، كون جمال كتابته والأفكار التي تستغرقك تمامًا تصيب مداد قلمك بالجفاف، فهمك يصبح أكبرَ بكثير من التعبيرات التي قد تفصح من خلالها عن رؤيتك الفنية والانطباعية حيال ما تقرأ، فالحكاية بمستوياتها القرائية المتعددة، ثقيلة جدًا ومتشظية يصعب حملها ولملمتها والحديث عنها وإن كانت موجودة ويمكن بشيء من الجهد تجميع شتاتها وإعادة نظمها وقراءتها، لكنها غالبًا ما تبقى على حالتها تلك ولن يجتهد أحد لسبكها أو تجميع أجزائها، فهي كتبت حتى نتناولها كما هي، ونتآلف معها ونستعيد من خلالها قدرتنا على التفكير والإدراك المحسوس.


    ولعل في ذلك ما يشير إلى القيمة الحقيقية لقلم هذا الكاتب المبدع، فهو يعلن بكل وضوح أن الحكاية الحقيقية للحياة لا تقرأ في المشاهد التي نراها جميعًا ونعيشها أيضًا ونتفاعل معها، وقد نصبح جزءًا لا يتجزأ منها كونها - أي الحياة المشاهدة التي تتفاعل معنا ونتفاعل معها- لا تظهر قيمتنا القرائية الحقيقية وتبصرنا إن لم نسبر أغوارها، إذ إن الجميع وإن كان يراها فهي رؤية سطحية والتقاطات ساذجة مهما تعددت زواياها، وهنا تكمن القيمة الحقيقية للفلاسفة والمفكرين حين يلجؤون إلى تضمين كتاباتهم الروائية الإبداعية؛ فلسفاتهم وأفكارهم، والأدب على عمومه يُعد مرتعًا خصبًا لكل ذلك، فالأديب والمفكر والفيلسوف وحتى رجل الدين الحقيقي؛ كل هؤلاء لا يذكرون ما يعرفه الجميع، أو لنقل لا ينشغلون بنقل الصور السطحية المتداولة، وإلا لانعدمت قيمتهم، فالبشر ينصتون وينحازون لمن ينقل لهم الأخبار التي لا يعرفونها، أو تلك التي تختبر قناعاتهم ومسلماتهم، وتعظم قيمة هذه الأخبار والنظريات عندما يشعرون أنهم ما كانوا يستطيعون الوصول إليها من تلقاء أنفسهم، وتعظم أكثر عندما يتيقنون أنهم عاجزون تمامًا عن الوصول إليها، رغم قربهم منها وبحثهم عنها، وفي ذلك اعتراف ضمني بأن الصعوبات تخلق قيمة الأشياء، وأن السهولة تبدد هذه القيمة حتى وإن أتت لاحقًا. ولعل هذا هو بالضبط النهج الذي اتبعه «كونديرا» وهو يفرد لنا مساحة سردية كبيرة خصصها لإطلاعنا على جزء من حياتنا التي نعرفها جيدًا، من خلال روايته «كائن لا تحتمل خفته» في ترجمتها العربية المنسوبة للمترجم «ماري طوق» والصادرة عن المركز الثقافي العربي، الواقعة في 317 صفحة من القطع المتوسط.



    في هذه الالتقاطة البسيطة يستعرض لنا العلاقة العاطفية التي تجمع شابًا بفتاة خارج إطار الزواج أو العقود الرسمية بتشعباتها وتقاطعاتها، ولم تحمل الرواية أبعادًا حكائية تثير فضولنا وتشوقنا، وقد لا أكون متجنيًا إن قلت إن الحكاية الأم مبتذلة ولا قيمة لها، إذا نظرنا لها بطريقة سطحية، ولكن، أيمكننا النظر إليها بهذه الطريقة والتقليل من شأنها؟! بالطبع لا، ويكمن السر في التشظية التي ذكرتها ابتداءً، فتسطيح الحكاية ومن ثم إثقالها وتفرقتها وإعادة تجميع قصاصاتها ليست بالأمر الهين، إذ تحتاج منا المرور على كامل الحكاية المسرودة لفهمها، وفي حال فعلنا ذلك فإننا يقينًا لن نهتم بالمشقة التي تكبدناها في هذا التجميع كوننا سنصل إلى الغاية التي كتبت من أجلها هذه الحكاية على هذا النحو، وسنعلم يقينًا أن الحكايات البسيطة التي يراها الجميع، لا قيمة لها ولا تستحق الذكر مالم نعد صياغتها، فالحكاية الحقيقية هي التي تستوقفنا وتجهدنا لفهمها والغوص في خباياها، واستلهام العبر منها، وتوظيفها لبث أفكارنا وفلسفاتنا، وتفرض علينا الاتصال المستمر معها بعد فراغنا منها، وهذا بالضبط ما فعله «كونديرا» خلال هذا العمل الإبداعي وحاول تأطيرنا عليه، وهو ما دفعه للتشظية الإبداعية التي نوهت عنها، فبعض المواقف الحياتية المعتادة، أو الصور السطحية، تحمل قيمة معينة تدفع الكاتب للتفكير، والحديث عنها، وبالتالي تنفصل عن أختها، وتقودنا للاستمتاع بالتنقل بين شذرات متفرقة لكل واحدة منها جماليتها الشكلية ودلالاتها الفلسفية العميقة.


    يمكننا فهم كل ذلك من خلال إحدى هذه الحكايات الملهمة، ولتكن حكاية التلة «مون - دو - بيير» التي نصح «توماس» حبيبته «تيريزا» بالذهاب إليها للخلاص من حالة التشتت والتوهان التي تعيشها، وكانت الحكاية ببساطة شديدة تشير إلا أن هناك من يقفون على هذه التلة ويلبون احتياجات بعضهم للانتحار أو الموت الرحيم، أي إنك تقتل نزولًا عند رغبتك، وعليك فقط الإقرار بأن هذه رغبتك ليقوموا بعصب عينيك وبعدها يوجه أحدهم بندقيته إليك ويخلصك من هذه المعاناة، وكان هذا الأمر مقبولًا ومنطقيًا في ظل الفوضى الأمنية التي عاشتها مدينة براغ العاصمة التشيكية الشهيرة وقت الاحتلال السوفيتي لدولة التشيك وحالة انسداد الأفق التي عاشها بعضهم، وخلاصة القول إن الحكاية السطحية كانت بهذا الوصف البسيط، ولو كتبت على هذا النحو لفقدت قيمتها، ولأمكننا القول إننا نستطيع سردها وكتابتها بطريقة أفضل من ذلك، ولكن، «كونديرا» قام بتشظيتها، وضمنها فلسفته، وكتبها في خمس صفحات بداية من مقترح «توماس» بالصعود للتلة، وانتهاءً بنزولها عندما نكصت على عقبيها واعترفت بأنها لم تصعد برغبتها، في المشهد الأخير الذي نطالعه ص149 في قوله: «بدأت شجاعتها تخونها. كانت يائسة من ضعفها ولكنها لم تستطع السيطرة عليها، فقالت «لا ليست هذه رغبتي».


    فأخفض الرجل بندقيته في الحال وقال بهدوء ملحوظ: «مادامت هذه ليست رغبتك، لا يمكننا والحالة هذه أن نقوم بهذا، ليس لنا الحق في ذلك».

    إعلان

    كان صوته ودودًا وكأنه يريد أن يعتذر إلى تيريزا، لعدم قدرته على التنفيذ ما لم تكن هذه رغبتها. كان هذا اللطف يمزق قلبها فألقت رأسها على جذع الشجرة وأجهشت بالبكاء. (انتهى كلامه).

    في هذا الموقف الذي نقلتُ نهايته فقط يتبين لنا كيف أن الحكايات التي ترسم حياتنا ونستفيد منها وتثري تجربتنا، لا يمكن قراءتها وتداولها بصورتها السطحية، وكان «ميلان» قد قام بتوظيف هذا المشهد في تبرير الخيانة لأول مرة وأقحمها في فلسفة خيانة الجسد وخيانة المشاعر والفرق بينهما في اللقاء العابر بين «تيريزا» والمهندس طويل القامة الذي دفعها للخيانة، والشاهد هنا أن كل الحكايات البسيطة لم تكن كذلك عند «كونديرا» فهو لا يسرد ما نعرفه من حكايات بالخفة المعتادة، بل يأخذ عناوينها البسيطة وخطوطها الرئيسة وبعدها يفتننا في فلسفتها وتجزئتها لأشلاء متناهية الصغر يحمل كل منها عمقًا معينًا وثقلًا لم نكن لنراه لولا أننا نظرنا إليه من منظار «ميلان»، وكأنه يثقلها بفلسفته وفكره العميق، وللدلالة على ذلك يمكننا الإشارة إلا حكاية أخرى بسيطة نطالعها في هذا العمل الإبداعي وتتلخص في فلسفة القناعات التي نجتهد في تمريرها فترتد علينا، كوقوع «توماس» في مغبة إقناع «تيريزا» بفلسفته للخيانة ودفعه ثمن ذلك غاليًا.


    الجميل في هذه المقاربة الموصوفة أن الخيانة المتبادلة قد لا تكون وسيلة عقابية، وإنما قناعات متناقلة ترسم سلوكياتنا، فخيانة «تيريزا» لـ «توماس» كانت بغرض تجربة فلسفته للفصل بين الجسد والمشاعر، وكان قد حاول إقناعها بأن الخيانة تخص المشاعر فقط، بينما لا يعد التقاء الأجساد خيانة.


    أفرد «كونديرا» لهذه الفكرة البسيطة مساحة سردية ليست بالقليلة واستخدم مزيدًا من الحكايات المتشظية داخل النص، وكان فيما ظهر لي يسعى لتمرير فلسفة أعظم منها تتعلق بغرس العقائد وتبديل القناعات وارتباطها بالحكايات السطحية التي نعيشها ولا نهتم لها حتى يأتي من يعيدنا إليها، ويدفعنا للإيمان بالفلسفة والأفكار التي يروج لها، كهروب «توماس» من خيانته المتواصلة لـ «تيريزا» بتمريره فكرة خيانة الجسد والمشاعر، فهي وإن لم تسلم له بصدق نظريته إلا أنها دخلت من خلالها في صراعات نفسية متعددة، واستعادت صورًا قديمة تمتلئ بها ذاكرتها، كامتهان والدتها لجسدها وسيرها عارية في المنزل أمام أبنائها وصديقاتها، واحتقارها لجسدها وبيان قيمته المتدنية وهي تضرط على مسمع من الجميع، وكان قد أشعل فتيل هذه الفكرة بحديثه عن انحسار دور الجسد في تناول الطعام ودخول المرحاض، والجميل هنا تغذية «توماس» لعقل «تيريزا» بالعناوين البسيطة فقط ومنحها فرصة اختبارها من خلال حكاياتها الخاصة الحديثة، أو القديمة، فيمضي بنا على هذا النحو وصولًا إلى تغيير القناعة وتشكل المعتقد الجديد الذي أجاز لـ «تيريزا» خيانته فسلمت جسدها للمهندس وهي لا تزال بالفعل تحب «توماس».


    هذه الحكاية العميقة جدًا، استطاع «كونديرا» تشظيتها والحديث عنها ربما في كامل الكتاب. والجميل أنك تعيش بين إثارة بعض الحكايات الشذرية وتشويقها وحرصك على المتابعة تقصيًا لنهايتها في وقت لا تنفك عن ترك القشور السطحية والذهاب مع الكاتب إلى ما ورائيات الصور البسيطة، وتجد أنك غارق حتى الثمالة في فلسفة الأمور دون كلل أو ملل، فهو قد حملك بمنهجيته في التفكير وطريقته في تناول الحكايات، واصبحت تعرف طريقك جيدًا وتمارسه باستمتاع عجيب من دون العودة للتفكير في الحكاية الأم واختبار أهميتها، بل لعلك تدون حكايتك المتشظية الخاصة بك وتحملها فلسفات وأفكارًا جديدة اكتشفتها عند اتباعك نفس المنهجية وقناعتك بها وكأن «كونديرا» أخذ على عاتقه إفهامنا القيمة الحقيقية للحكايات وكيف يتسنى لنا توظيفها في حياتنا والصراع معها لبناء المنهجية الشخصية وتشكيل قناعاتنا وفلسفاتنا.

    وفي ص 176 نجد مثالًا صارخًا لحكاية ثقيلة من تلك الحكايات البسيطة أو لنقل الدارجة في ذلك الوقت عام 1968م وربما قبلها وهي حكاية أوديب الذي فَقَأَ عينَه و رحل عن مملكة طيبة وتخلى عن زعامتها عندما علم أنه تزوج والدته بالخطأ، وكان قد نال المُلك تبعًا لذلك، وهي الحكاية المعروفة من الإرث الأدبي القديم، نجد أن «كونديرا» وظفها لطرح فلسفته المتعلقة بالجرائم التي ترتكب ويعتذر عنها لاحقًا بحجة الجهل، أتى بها بدايةً في قوله ص172: «الأنظمة المجرمة لم ينشئها أناس مجرمون وإنما أناس متحمسون ومقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيدة التي تؤدي إلى الجنة، فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذه الطريق، ومن أجل هذا قاموا بإعدام كثيرين. ثم، فيما بعد، أصبح جليًا وواضحًا أكثر من نور النهار، أن الجنة ليست موجودة وأن المتحمسين كانوا إذًا مجرد سفاحين.» انتهى كلامه. هذه الفكرة التي لخصت لنا شظية صغيرة تكاد لا تذكر من الحكاية الكبيرة التي قامت عليها هذه الرواية، وحريُّ بنا أن نعلم أنها لا علاقة لها بهيكل العمل بطريقة مباشرة، بل قد يعتقد بعض المقولبين أنها شطحة من شطحات «كونديرا» أرادا من خلالها تمرير بعض فلسفاته وحول النص لمثاقفة مرفوضة، بينما هو لايزال يعتمد نفس المنهجية التي يسعى من خلالها لوضع الحكايات البسيطة كنقطة انطلاق أو حجر زاوية نعتمدها لفهم الحياة، بدليل أنه لم يترك هذه الجزئية بدون ربط مع الحكاية الأم ولم يكتفِ بوصلها بالطبيب «توماس» بشكل منطقي جدًا، بل ذهب بعيدًا في توظيفها لإعادتنا إلى المجتمع الذي شكل شخصية «توماس» و»تيريزا»، وظل يغذيها بالأفكار والفلسفات حتى نهاية العمل، فـ «توماس» نفسه ظهر متحمسًا لأفكار معينة ويدافع بضراوة عنها، فهل كانت هذه الأفكار التي يروج لها صائبة أو خاطئة؟! وهل سيقبلُ لاحقًا اعتذاره بالجهل كي نغفر له ذلك؟! ومن يتحمل نفقات من أمنوا بنظريته وطبقوها وخسروا كثيرًا جراءَها؟!


    وكأنه بهذه الحكاية التي ألصقها بالحكاية الرئيسة وأصبح من العسير فصلها أو التقليل من شأنها أو حتى انتقادها، أراد إفهامنا أن الحكاية الصغيرة لطالما كانت لها نسخ متعددة تتفاوت في الحجم لكنها تقودنا إلى نفس النهاية، وكان -في ظني- في منتهى الذكاء وهو يفرد عددًا من الصفحات تربو على 21 صفحة وهي الأطول في مناقشة الأفكار الشذرية طوال هذا العمل السردي، خصصها لمناقشة هذه الفلسفة البسيطة، ما يعني أنه يعلم جيدًا ما يقول، وأراد بالفعل تمرير هذه الأفكار وربما مارس نفس الدور الذي ينتقده، ببحثه عن متعاطفين أو مؤمنين بأفكاره ليجندهم للدفاع عنها، ويتخلى عنهم لاحقًا ويتركهم لمصيرهم، وسيكون قد أبرأ ذمته، فالجنود المؤمنون بالأفكار والفلسفات والأيديولوجيات حسب فلسفته المعلنة، هم المجرمون بحق، لتعهدهم الأفكار التي يؤمنون بها وإفساحهم الطريق أمامها وتشييدها على أرض الواقع، واستسهالهم إراقة الدماء في سبيل ذلك، وحتى لا يأتي من يقول إن «كونديرا» قصر حديثه على الشيوعية والأضرار التي لحقت ببعض المجتمعات الأوروبية كـ «تشيكوسلوفكيا» قبل عودتها للحضن الرأسمالي وتفتيتها إلى التشيك وسلوفانيا، علينا تذكر أنه قام بتجزئة هذه الفكرة ومناقشتها بشكل مستفيض في مستويات قرائية تعلقت بالتأثير والتأثر وشملت مختلف مناحي الحياة، كقوله ص176:»كان توماس يعد أفضل جراح في المستشفى. وكان يشاع إن رئيس الخدمة الذي كان يقترب من سن التقاعد، سيترك له منصبه عما قريب. وعندما سرى الخبر بأن السلطات العليا كانت تفرض عليه تقديم إفادة نقد ذاتية، لم يشك أحد في أنه سيمتثل للأمر.


    وهذا أول أمر فاجأه: أن يراهن الجميع على عدم استقامته مع أنه لم يقم بشيء يبرهن على صحة هذا الافتراض، بدل أن يراهنوا على استقامته» انتهى كلامه. وكما هو ظاهر هنا فالرأي الجمعي يغلب عليهم بمعزل عن حقيقة الأمر، وقد فصل هنا بطريقة مبررة وإبداعية، مظهرًا أن تصورهم الشخصي وفهمهم القاصر قادهم لهذا الاستنتاج، وأن لا علاقة له مطلقًا بهذا الأمر، وهذا يعني عدم إعفائهم من المسؤولية فيما لو ارتكبت أي حماقة تبعًا لهذا التصور الخاطئ، وهي ذات الفكرة التي ابتدأ بها فلسفته عن تمرير الأفكار والأيديولوجيات لدى أنظمة الحكم المستبدة، وما يرافقها من ظلم واضطهاد يرى نسبته إلى المؤمنين بالأفكار والمروجين والداعمين لها ومحاسبتهم على ذلك، وتبرأت ساحة أصحابها الذين أتوا بها، وهذه -في ظني- فلسفة عظيمة قامت عليها الحياة، فالمؤمنون بالأفكار والأيديولوجيات والفلسفات هم من يدافعون عنها ويقاتلون في سبيلها وليس من أتوا بها والتاريخ ـ الحديث والقديم ـ خير شاهد على ذلك، والمضحك هو ما أورده «كونديرا» هنا بأن هؤلاء المؤمنين ليس شرطًا أن يكونوا واعين لها ويفهمونها جيدًا، بل قد يكونوا مغفلين، يكتشفون لاحقًا خطأها ويتحججون بجهلهم وصفاقتهم وغبائهم، ويعتقدون أنهم بذلك معفيون من المحاسبة.


    كل هذه الفلسفات العظيمة الواقعية جدًا نستخلصها من الحكايات البسيطة المتشظية عندما ننظر إليها بطريقة «كونديرا» ونفهمها بعمق كبير ونشعر بثقلها الذي يبعدنا عن صورتها ا لسطحية الخادعة، وكأنه بذلك يريد إخبارنا إن الحياة لا يعمرها الأغبياء أو القطعان المندفعة خلف بعضها، بل تحتاج منا قدرًا من الوعي وقرارات فردية نتخذها بمعزل عن الآخرين، كما هو حال «توماس» و «تيريزا» وكل أبطال هذا العمل الذين تعمد الإتيانَ بهم على هذا القدر من التشابه في استقلاليتهم وقدرتهم على اتخاذ القرارات، ولم يكن أحدهم تابعًا بالمطلق للأخر، فها هي «تيريزا» وقد استجابت لـ «توماس» وصعدت للتلة وكادت تهلك وهي تتقدم لساحة القتل الرحيم، في تلك اللحظة الأخيرة خرجت من التبعية المطلقة وذكرت لصاحب البندقية أن هذه ليست رغبتها وكان لخروجها من التبعية نجاتها من القتل، وفي هذا حكمة عظيمة تكررت كثيرًا في سياقات السرد، فذهاب «توماس» إلى مدينة زيورخ بسويسرا رفقة «تيريزا» كان قراراً مستقلًا، وعودة «تيريزا» إلى براغ أيضًا ولحاقه بها كان قرارًا مستقلًا من كليهما، وترك «تيريزا» لوالدتها وقدومها إلى براغ كان قرارها أيضًا، وهو نفس الحال الذي تكرر مع أبطال العمل الآخرين، فجميعهم اتسموا بهذا الاستقلالية في قراراتهم، والجميل أنها -كما أسلفت- ليست استقلالية مطلقة، وإنما كانت تحضر وتغيب، وفي ذلك ما يظهر قيمتها الحقيقية خلاف واقعيتها، بمعنى أن الاستقلالية المطلقة قد تكون هي الأخرى نهجًا جمعيًا قطيعيًا لا يعتد بدلالاته، ويصبح لتضارب القرارات قيمتها الحقيقية التي أرادها الكاتب، وأنا هنا أتحدث عن الكاتب انطلاقًا مما كتب وليس اعتمادًا على خلفيته الأيديولوجية أو الاجتماعية في ظل أنه لم يطلب منا قراءَة كتابه من منطلقات ثقافية أو اجتماعية، وإنما أحالنا لمداده وطلب منا النظر له هو الأخر باستقلالية غير مصحوبة بشخصه الحقيقي وخلفياته السياسية والأيديولوجية والأخلاقية، أي أنه وضع نفسه رهن الأفكار التي اجتهد لتمريرها ورضي أن يتم التحاكم من خلالها.

    ولعل مما ميز هذا السفر احتواءه على عدد لا يستهان به من الأفكار الفلسفية التي أفرد لها الصفحات وأدرجها ضمن سياقته السردية بطريقة غاية في الجمال والروعة بعد تشظيتها والحديث عن تلك الشظايا بمنهجية تظهر ثقلها بعد رؤيتها تحت عدسته المكبرة، ومن ذلك فلسفة الربط بين اشتغال «توماس» بالطب وشهوانيته المفرطة للجنس، وتمريره لهذه الفكرة بالحديث عن نسبة الاختلافات الضئيلة بين النساء، وأن التفريق بينهن لا يتأتى إلا بالدخول إلى أعماق المرأة الذي تكفله الممارسة الجنسية ولا تفصح عنه الاختلافات الشكلية الهامشية، تكرر ذلك أيضًا في حديثه عن المذهب الرومانسي «الرومانطقية» وكذلك «الميلودراما» أو مسرحة الحياة وصبغها بالمشاعر وتفصيله في هذا الأمر، وكذلك حديثه عن طائر الزاغ الذي وجدته «تيريزا» مغروسًا في الأرض ومحتوتًا عليه التراب والأطفال يلهون به ويكادون يقتلونه. وكان قد استفاض في الحديث عن هذا المشهد تحديدًا وربطه بكثير من الحوادث اليومية التي يعيشها الإنسان ويعجز عن تفسيرها رغم دلالاتها.

    وحكاية أخرى ملهمة نجدها مسطرة على مساحة سردية تمتد من ص209 إلى ص221 وكان محورها اجتماعه بصحفي في بيته وبرفقتهما ابنه من عشيقة سابقة لم يره ولم يجتمع فيه قبل ذلك، وكان الهدف توقيعه على عريضة تطالب رئيس الجمهورية بالعفو عن السجناء، وكانت النتيجة النهائية بالطبع رفض «توماس» التوقيع، ولكن، وصوله إلى هذا الرفض استغرق منا مساحة سردية كبيرة جعلتنا نغوص كثيرًا في أعماق القرار، وأظنُّنَا اقتنعنا بالفعل أنه القرار الأصوب عندما قال لهما ص221: «أعذراني لن أوقع». انتهى كلامه. وها هو يحيلنا مرة أخرى للفردية والاستقلالية غير المطلقة التي تحمل قيمة كبيرة بسبب ارتباطها بحدث وقرار ومعطيات تجعلها مبررة، وتجعلنا كقراء نتفق أو نختلف معها، وهي قدرة هائلة على إقحام المتلقي في النص وصهره كليًّا داخله، وقدرة عالية جدًا على توسيع مساحة السرد رغم بساطة المشهد ومحدوديته، إذ إن كاتبًا أخر قد يكتبه في نصف صفحة إن كان مؤطرًا وخشي الإطالة فوصف لنا المشهد والقرار وانتقل للحديث عن أمر آخر وهو يظن أنه أجاد عمله ومنح السرد القدر الذي يستحقه من دون زيادة أو نقصان، بينما لم يكن «ميلان» كذلك، ففي هذا المشهد البسيط استطاع سرد الحكاية كاملة مرة أخرى، وحضرت «تيرزا» العشيقة التي لازالت تُخضع عاطفتهُ لاضطراب لم يستطع النجاة منه، وحضرت حكاية طائر الزاغ، وحضر كذلك انفلاته الجنسي، و شخصيته المركبة التي تعيش الحب وتهرب منه في ذات التوقيت، ولعل الإبداع الذي مارسه الكاتب هنا هو عدم اكتفائه بالقرار وترك تبعاته لتخمينات القارئ ومدى ارتباطه بالمشهد، فنجده قد عاد للحديث عن تبعات العريضة التي قدمت، وحديث الصحافة المطول عنها واختيارها هذا التناول المعلن على صفحات الجرائد رغم قدرتها على التجاهل، وفلسفة هذا الأمر وتأثره هو شخصيًا بما حدث وعودته لاختبار قراره أكان صائبًا أم خاطئًا وهو ما يعيدنا مرة أخرى للاستقلالية ال تي تحدثنا مطولًا عنها، وذكرنا أن الكاتب اختار بحصافة أن تكون غير مطلقة سعيًا لتحقيق المكاسب الفهمية التي يرجوها من خلال سرده الإبداعي، ويعيدنا دومًا لنقطة البداية ويدفعنا للتفكير في المشاهد بطريقة موسعة تجعلنا نراها بالطريقة الصحيحة التي تكفل لنا الاستزادة من الخبرات نتيجة لها.

    هكذا كان كونديرا يخلق من المشاهد البسيطة؛ حكاية كبيرة جدًا مثقلة بالمعاني والأفكار والفلسفات، قد تمتد لكامل الحياة التي يعيشها أحدنا، وأن هذا التشظي الحكائي الذي اعتمدت عليه الرواية من بدايتها حتى نهايتها لم يكن عفويًا، بل كان منهجيًا ومتعمدًا من السارد ويعد الهيكل البنائي الأساسي لكامل العمل، وهذا ليس قولي بكل تأكيد وإنما هو اعتراف صريح من «كونديرا» أو من نائبه «الراوي العليم المعني بالسرد، وكان قد قالها صراحة في لحظة الحقيقة التي قررها وأتت في مرحلة متقدمة جدًا ونحن نقترب من خط النهاية عندما أخذ «العليم» على عاتقه مخاطبة القارئ بشكل مباشر وبطريقة حميمية مبررة وكأنه يقول له: ها أنت الآن قد انصهرت داخل الحكاية وأصبحت تعنيك تمامًا فلْنُنحِّ السرد جانبًا، ودعني أخبرك بطريقة مقالية مباشرة عن الحكاية الحقيقية التي بني عليها هذا العمل وأطلعك علي السر الذي كفل لي تمرير كل هذه الأفكار والفلسفات بالمنهجية الإبداعية التي استهوتك، عبر عن هذه الفكرة بقوله ص222: «إنه وليد هذه الصورة. فكما سبق وقلت لكم، أشخاصي لا يولدون من أجساد أمهاتهم كما تولد الكائنات الحية، ولكنهم يولدون من حالة أو جملة أو من استعارة تحوي في داخلها برعم احتمال إنساني صميم يخيل للكاتب أنه لم يتسنَّ له اكتشافه بعد أو أنه لم يكتب عنه شيئًا يستحق الذكر حتى الآن.» انتهى كلامه. وهكذا نجد الراوي هنا يتخلى عن الكاتب أو ينقلب عليه ويتحدث مع القارئ كطرف ثالث وكل ذلك بهدف وضع شاهد حقيقي وقوي على هذه المنهجية السردية التي قررها الكاتب والتأكد من أن القارئ واعٍ لها حتى لا يضيع مجهوده هباءً، فأصبحنا وقد وصلنا إلى هذا المنعطف القرائي المهم شبه موقنين بالتشظي الحكائي المتعمد الذي أوقفنا على الثقل المحتمل وإن علينا أخذه على محمل الجد وفهم العمل من خلاله….

    وللحديث بقية نستكمله في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى بالذهاب باتجاه الخفة التي تعد الوجه الآخر لهذا العمل الإبداعي.
    الصور المرفقة الصور المرفقة

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •