بقلم : أحمد الهلالي ـ صحيفة مكة
ينبع.. سخاء الإنسان وسحر المكان!
الثلاثاء - 30 نوفمبر 2021
في مقالة الأسبوع الماضي تناولت ينبع (المكان)، وركضت خلف موضوع عيون ينبع النخل؛ لأنه أشعل فضولي ودهشتي وإعجابي، والحق أن إدهاش (إنسان) ينبع أكبر وأعظم، فمنذ أن حل وفدنا الثقافي، فرش أكارم ينبع الأرض بورود ترحابهم، وملؤوا السماء بمزن نداهم، وازدحمت ذرات الأثير بموسيقى أرواحهم الباشة، حتى أنسونا الدار والأهل والمشاغل، فرفلنا في ظليل وارفاتهم هانئين.

الدكتور سعد الرفاعي، دعانا فأجابه وجهاء ينبع البحر وينبع الصناعية وينبع النخل ومحافظتي بدر وأملج، وكانوا على قلب رجل واحد، يتوقد في أعماقهم العربي الأصيل بكرمه وشهامته وبشاشته، فتبوأنا من قلوبهم مكانا عليا، حين احتفى بنا شاطئ البحر على مأدبة فاخرة يتقدمهم المحافظ والشيوخ والأعيان، ثم في صباح اليوم التالي كان متحف سالم الحجوري يتشوق إلى عناق القادمين، فأدهشنا بمقتنياته الفريدة، فهو من أعجب المتاحف، بوفرة المقتنيات وروعة التقسيم، رغم صعوبة الإمكانات، فقد ألحقه صاحبه بجزء من منزله حتى احتل غرفا كثيرة. ولأن وجهاء ينبع لم يكفهم أن نجاور الشاطئ، قرروا أن نشاهد ينبع البحر من أعلى قممها، فاستقبلنا مدير ميناء ينبع العريق، الكابتن علي المحوري وزملاؤه أمام البرج، الذي فتح قلبه فاعتليناه وشاهدنا ينبع والبحر، فتضوع عبق التاريخ وأهازيج البحارة.

ومن قلب الميناء انتزعتنا حميمية ينبع الصناعية، فسابقتنا أرواحنا التواقة على امتداد الشاطئ الذي يصل ينبع البحر بالصناعية، وهو بحق أجمل شاطئ رأيته بتنسيقه ونظافته ونضارته وخدماته، ثم تجولنا مجنحين بابتسامات موظفي الهيئة الملكية وكرم أرواحهم في الأحياء السكنية يصاحبنا شرح مفصل من المهندس غازي العتيبي عن كل ما نشاهده، حتى توقف الوفد على ضفاف بحيرة البجع، التي أنشأها الأمريكيون قديما، فتناولنا وجبة إفطار خفيفة على جنباتها، وكانت خاتمة المسك في أفخر مطاعم الأسماك، تشرفنا باستضافة شركة المصافي، حيث استقبلنا المهندس فهد الجهني، وماجد دبا وزملاؤهما، وكانوا حفيين بنا ولم يفارقونا إلا بعد أن توجوا الوفد بتذكارات خاصة لمصفاة أرامكو.

وفي المساء كان قلب ينبع البحر في انتظارنا، استقبلونا بأهازيج البحارة على إيقاع الطبول، ثم جاس بنا أبناء البحر خلال ذاكرة مغامراتهم، وحدثونا عن الكائنات البحرية وعدة البحار، وسموا حتى أجزاء السفينة وما يحيط بها، ثم تجولنا في أنحاء المنطقة المركزية وأسواقها القديمة، ودلفنا إلى أول مدرسة احتضنت أبناء ينبع النابهين، وختام المساء اتكأ الوفد يصدح بالأشعار في قاعة خصصها مستضيفونا في مطعم الجداف بمول سكاي سنتر، وكانت ينبع البحر تصر على أن تكون مآدبها من خيرات البحر الشهية بكل أنواعها.

جاء اليوم الثالث فبكرنا بعد الفجر، وكانت وجهتنا ينبع النخل، فكانت أول المحطات بحيرة عملاقة في قرية المبارك، وقفنا بجوارها، وتمنينا الجلوس لولا أن أهالي قرية الأشراف في انتظارنا، فاستقبلنا الشيخ هاشم بن بديوي الشريف في منزله، ثم بعد القهوة تجول بنا حول العيون، ورافقنا إلى السوق القديم، ثم إلى منزل الشيخ سعود الصيدلاني الجهني، فكان استقبالنا بالأهازيج القروية، ثم على طريقة أهل القرى ثوروا الملح (البارود) ورحبوا بنا على الفطور الفاخر، صحون مفروشة بالخبز الرقيق مبللة بالمرق تتوسدها أنصاف الذبائح السمينة، وحول الصحون أطباق ينبع الشعبية، ثم ودعناهم وأرواحهم متعلقة بأرواحنا.

لم نتوقف إلا حين أطلت الحافلة على محافظة بدر، استقبلنا الرحالة عاتق الشريف، وشرح لنا على الطبيعة عن أول موقعة في الإسلام، ثم أخذنا إلى مقبرة الشهداء، فحيينا الشهداء والموتى في تلك المقبرة، وصلينا الجمعة في مسجد العريش، ثم حملنا عاتق على أجنحة ترحابه إلى منزل والده الشيخ حميد بن نامي الشريف فكان مجلسه عامرا بوجهاء بدر، فدارت كأس الشعر، إلى أن رحبوا بنا على نداهم العريق، ومن هناك قفلنا جذلى إلى ينبع النخل، توقفنا أمام عين عجلان، ثم واصلنا المسير إلى قرية (سويقة) فكان الشيخ نصار الفايدي وأعيانها في استقبالنا في المقرح (مكان اجتماع سكان القرية في المناسبات العامة) فحضرت كل الألعاب الشعبية، وشاركناهم في أداء رقصة شعبية، في جو من الحبور يضج بالأهازيج والطبول وأصوات بنادق البارود المنظم، وكم سعدنا بحضور الزميلين الدكتور عبدالله المعيقل والأستاذ إبراهيم الوافي من الرياض، فهما من أعيان سويقة البررة.

غادرنا سويقة إلى قرية (عين عجلان) فكان الشيخ علي بن حسين أبو العسل، شيخ رفاعة يتقدم أعيان قريته الكرام في استقبالنا، فاحتوانا مجلسه الفخم الدافئ، وقد أعدوا برنامجا ثقافيا استمعنا خلاله إلى عاطر الكلم، وعذوبة الشعر منهم ومنا، ثم كانت المأدبة الكبيرة عامرة بجملين وعدد من الكباش، وصنوف أخرى، وهذا لا يستغرب في مجالس كرماء العرب، حتى ودعناهم على مضض أرواحنا وأرواحهم.

في اليوم الرابع، بكرنا؛ لأن البر عاتب على استئثار البحر بأضياف ينبع، فكان مخيم الأبطح أثيثا ببسمات الشباب البشوشين، ودلال القهوة وأباريق الشاي تصطلي بالجمر، عابق بروائحها البر الفسيح، ثم قدموا لنا الفطور الينبعي الشعبي، بما لذ وطاب، وكان أن رحلة أحد مرافقينا مبكرة، ما حرمنا من زيارة أملج وشواطئها الساحرة، فغادرنا ينبع لكنها لن تغادرنا.