[align=center]



معالي وزير التربية والتعليم السبق الدكتور محمد بن أحمد الراشد في أولى مكاشفاته

في أولى مكاشفاته تحدث معالي وزير التربية والتعليم السابق د.محمد بن أحمد الرشيد عن طفولته وتنشئته الاجتماعية، وقال إنه نشأ في بيئة مُحافِظة بمدينة المجمعة السعودية، ساردًا مراحل دراسته الابتدائية والمتوسطة بشيء من التفصيل التاريخي. وقرر د.الرشيد بأن من يلجأ للضرب هو معلم مخفق وضعيف القدرات.. أما المعلم الناجح فيؤثر في الطلاب بقوة شخصيته، مؤكدًا على أن مهمة التعليم العام أن يجعلك تحب دينك ووطنك، وتتعلم مهنة تحبها. أمـــا التخصص - في رأيه - فهو من مهمة مؤسسات التعليم العالي. وتحدى معاليه أيٌّا من خصومه أن يثبت أنه طالَب يومًا بتقليل حصص علوم الدين قبل أن يكون في الوزارة، وبعد أن تركها، وأثناء عملــه فـيها. وإلى الجزء الأول :


أشكر لك موافقتك على أن تكون ضيفاً على (مكاشفات)، وسأبدأ مباشرة معك معالي الوزير بالحديث عن مراحل الطفولة والتنشئة الاجتماعية جرياً على عادة هذه الحوارات. ولدت في عام 1363هـ بمدينة المجمعة حدثنا عن البيئة الأسرية والاجتماعية التي نشأت فيها.
- كما تعرف -في ذلك الزمن الذي ولدت فيه - كان مجتمعنا صغيراً محافظاً، لا علاقة له بالعالم الخارجي، أقصى ما كنا نعرف - ويعرف آباؤنا- هو مدننا في المملكة، والمطّلع منهم زار بعض المدن في الدول العربية المجاورة. كان احتكاكنا بالناس محدوداً حتى وصل التعليم إلينا، وبدأ وقتها عبر الإخوة العرب من مصر وفلسطين وسوريا وبقية الدول العربية، وأتصور أن هذه كانت بداية انفتاحة كبرى لنا. مما علق بذاكرتي من تلك الأيام، أنه لم يكن لدينا كهرباء، بل كانت السرج ( الأتاريك، والفوانيس) وما شابهها. أما المياه فعن طريق الآبار الجوفية نمتحها بالدلو، ثم ننقلها إلى بيوتنا بواسطة أوانٍ من النحاس كبيرة، تسمى الواحدة منها (قِدْراً)، نحمله فوق رؤوسنا ونضع قماشاً ملفوفاً مكوّراً ليحمي رؤوسنا من ضغط الإناء الصلب، وعادة ما تكون بالقرب من المسجد حتى يستطيع الناس أن يتوضأوا منها. توفى والدي - رحمه اللّه - وعمري قريب من العشرين عاماً، ولم يكن عندنا شيء من تقنيات ذلك الزمان، كالراديو؛ لأن الوالد كان يرى أن الراديو شيء محظور ينبغي ألا يكون في بيتنا. نشأت إذن في بيئة محافظة حتمـــت عليهــا ظروفهـــا التقشف في كل شـيء.

أدركت فيما بعد أن اسم عثمان في الماضي والحاضر هو أكثر شيوعاً في المجمعة من أي بلد آخر في المملكة، ولقد نبهني إلى ذلك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز.

* هل كنتم أسرة تمتهن الزراعة معالي الوزير؟

- لم نكن مزارعـــين. كان والــدي - رحمــه اللّه - تاجراً بمفهوم التجار وقتذاك، يبيع في الدكان الأرزاق، كالقهوة والشاي والأرز.. وغيرها.

* وهل أنت أكبر أخوتك ؟

- نعم، أنا أكبر إخوتي الذكور. هناك إناث أكـبر مني، وكان أبي - رحمه اللّه - يعتمد عليّ بشكل كبير، وكان متقدماً في السنّ حين وعيت الحياة التي كانت تقشفاً وبساطة، وكان بيننا تواصل اجتماعي وترابط كبير بين الأسر، بل أذكر أنني حين تركت مدينة المجمعة تركتها وأنا أعرف جميع سكانها وبيوتها وأسرها، مجتمعنا ذاك الوقت كان متواصلاً ومتراحماً، ولذلك أنا حريص أن يعرف جيل هذا الزمن كيف كان آباؤهم وأجدادهم يعيشون، وإلامَ انتهينا نحن ؟ أتذكر أن السفر من المجمعة - التي تبعد أقل من 180كلم عن الرياض حالياً - كان يأخذ منا من 8 - 9 ساعات على الأقل في طريق ترابي.

في الصيف كنا نخرج بعد صلاة العصر بسيارات النقل (اللوري) نسهر الليل كله، وإذا أقبلنا على الرياض قريباً من المطار القديم نمنا حتى لا نطرق الناس ليلاً، وإذا صلينا الفجر، وطلعت الشمس دخلنا البلد، وكل منا توجه إلى وجهته التي يريدها، وكذا الحال فيما لو أننا خرجنا من الرياض إلى المجمعة، أما إن كان السفر في الشتاء.. فخروجنا من البلد بعد صلاة الفجر كي نصل إلى مقصدنا بعد المغرب مباشرةً. وإن كان هناك أمطار.. فسفرنا قد يستغرق يومين؛ لأن السيارة تغرّز في الطين، ونعاني الكثير حتى نخرجها. هكذا كانت حياتنا، لكن الطفرة التي مرت علينا أحدثت انقلاباً فيها..

* معالي الوزير، الزمن الذي ولدت فيه شهد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدايات التأسيس للكيان السعودي. وسؤالي هنا عن الذي علق في ذاكرة الطفل محمد الرشيد في تلك الفترة المبكرة من حكايات الآباء والأجداد ؟

- علق في ذهني أشياء كثيرة منها: رؤية أبي وجيله يتحدثون عن عظمة تكوين هذا الكيان. والدي - على سبيل المثال - ممن شارك في غزوات كثيرة مع الملك عبد العزيز - رحمه اللّه - ، وكان مما يطربه أنهم في تلك الغزوات كانوا يقيمون العرضة السعودية ابتهاجاً بالنصر، وكان يُدلّ - رحمه اللّه - دوماً بأنه في إحدى العرضات فوجىء بالملك عبد العزيز ينضم إليهم في الصف ويمسك بيد أبي. وكانت هذه إحدى الأشياء التي لفتت انتباهي وأنا أستمع لحكاياتهم في مسامراتهم التي كانوا يتحدثون فيها عن عصرهم وشبابهم، وكيف كانوا في حالة من البؤس والفقر والخوف قبل أن يوحّد الملك المؤسس هذا الكيان. أبي قصّ عليّ أن عمي ذهب مع بعض رفاقه - قبل استقرار الأمن في بلدنا - يقطعون النبت من الأرض في زمن الربيع، فهاجمهم أحد قُطَّاع الطرق، الذين نسميهم في نجد (الحنشل)، فقتله وسلب كل ما لديه، وقد حاول عمي - رحمه اللّه - أن يقاومه ولكن دون جدوى، فكان أبي يحكي لنا - بكثيــر من الأسى والألم - هذه الحوادث التي تتكـرر. لذلك كان حديثهم عما فعله الملك عبد العزيز، وما أقام به هذا الكيان ببطولتــه النادرة، وما أقامه من عدل وأمن، كان حديــث العـــارف بالنعمــة. الملك عبد العزيـــز كان بالنسبة لهـــم أمثولـــة وأعجوبة، وأنا أتذكر حينما توفي الملك عبد العزيز - رحمه اللّه - كنت صغيراً في السن حينها، وقد صلينا العصر ولم يكن لدينا راديو - كما أسلفت لك - وإذا بشخص من عِلية الناس في المجمعة لديه راديو ناداني وقال: يا محمد تعالَ بلّغ أباك أن الملك عبد العزيز توفي، وأتذكر أن الخبر كان له وقع الزلزلة، وهرعت إلى أبي فزعاً وأنا أصيح أبي.. أبي، وكان - رحمه اللّه - منتظراً الطعام الذي وضع أمامه ( وكنا في ذلك الزمن نتناول وجبة واحدة هي غداؤنا وعشاؤنا، بعد صلاة العصر والأسرة تنتظر حتى يكتمل الجميع على السفرة ) فقـــرأ الفزع في وجهي وقــال: ماذا لديك ؟ أجبته وأنا ألهــث: قال لي فلان إن الملك عبد العزيز توفي. فترك الطعام وقام من فوره إلى غرفة المخزن، وأخرج بندقيته ظاناً أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل عهد ذلك المؤسس العظيم. هذه لحظات لا أنساها .

* عفواً معالي الوزير.. كم كان عمرك وقتذاك ؟

- أظن أن عمـري 10 سنوات.. أتذكـر تلك اللحظات، وقـد تركنا الطعام، والأسرة تنظر إلى والدي وهو يتفقد بندقيته ويدهنها بالزيت، كان يظن أن الدنيا بعد الملك عبد العزيز ستنقلب، ولا أذكر شيئاً أفزع أبي مثل هذه الحادثة التي تدل على مكانة الملك عبد العزيز في قلوب رعيته، وعلى ما حققه من أمن وطمأنينة .

* وماذا عن الحرب العالمية الثانية.. هل وعيت شيئاً من حوادثها ؟

- لم أعها، ولا أذكرها. كانوا يتحدثــون عن الألمان والحلفاء، وكان حديثاً لا أفهمه، إذ كنت صغيراً في السن كما تعرف.



المجمعة..مدينة الطفولة

* لأتجه بسؤالي إلى المجمعة معالي الوزير.هلاّ أعطيتنا نبذة عن مدينتك التي أكاد أجزم لك أن معظم تلاميذ المملكة في غير منطقة نجد والقصيم لا يعرفون عنها شيئاً ؟

- المجمعة تقع فـــي شمال الرياض، وتبعد عنها 180كلم، وهي تمثل مع مجموعة من القرى الكثيرة محافظة المجمعة، وكانت تُسمَّى المحافظة في السابق بسدير وقاعدتها وكبرى مدنها المجمعة ،وبعض مدنها الحوطة، والروضة، وجلاجل، وتمير، والإرطاوية .

* هل هي منطقة زراعية ؟

- نعم هي منطقة زراعية. أتذكـــر أن أحــد المثقفين زارها، ثم كتب مقالة عنها في إحدى الصحف المحلية، وصفها فيها بأنها مدينة المليون نخلة، وهي منطقة جميلة، وهي من أوليات المناطق التي أقيم فيها سد يحفظ مياه الأمطار، بناه المقاول جميل خوقـــير - رحمه اللّه - وكان كلما قابلني يقـــول ما رأيك في السد الذي بنيته لكم، وأتاح لكم فرصة التمتع بحفظ مياه السيل ؟ هي أرض زراعية، وهي ملتقى رياض كثيرة عند مجيء الأمطار، كثير من أهل البادية يقضون الربيع حواليها من أجل ماشيتهم، فهي سوق كبيرة للبادية، خاصة في موسم الأمطار.

* سأعود بك معالي الوزير إلى أجواء التربية والتعليم. هلاَّ حدثتنا عن تاريخ التعليم في منطقتكم.. الأهلي منه والحكومي، وعن تلك الأجواء الاجتماعية الشديدة الالتزام كما نسمع عنها؟

- (ضاحكاً ) ليس في تعليمنا أهلي في ذلك الوقت يا عبد العزيز. التعليم كله كان حكومياً.

* قصدت بالأهلي في سؤالي الكُـتَّــاب .

- نعم، قبل عهدي كانوا يقولون إنه كان هناك معلمـــو كتّاب مشهورون، تخرج على أيديهم أناس كثيرون نعرفهم، منهم الشيخ عبد العزيز بن صالح - رحمه الله - الـذي كان إمام الحرم النبوي ورئيس محاكم المدينة المنـورة، وكان أحمد الصانع - رحمه اللّه - صاحب المدرسة والمعلم الوحيد فيها، وكنا نسمع عنه وعن غيره من المعلمين، وحين افتتحت المدرسة الحكومية في المجمعة التحق بها من كان في الكتاتيب. وبالمناسبة كانت المجمعــة من أوليات المدن التي فتح فيها تعليم نظامي في عام 1356هـ، إذ أمر الملك عبد العزيز - رحمه اللّه - أن يُتوسع في إنشاء المدارس خاصة في منطقة نجد التي لم يكن فيها مدارس، ففتحت أربع مدارس.. واحدة منها في المجمعة؛ لذلك فإن أهل المجمعة يفخرون أن التعليم النظامي لديهم بدأ قبل مدينة الرياض، وتحول جميع من في الكتاتيب إليها، وكان إقبال الناس عليها شديداً، وأتذكر أنه كان من ضمن إدارة المدرسة الأستاذ المربي الكبير الشيخ عثمان الصالح - شفاه الله - الذي أسهم في تطوير المدرسة حينما فتحت.

كان بعض الطلاب بعد إنهائهم المرحلة الابتدائية يذهبون إلى دار التوحيد في الطائف، إذ لم تكن هناك مرحلة متوسطة، ولكن كان هناك حرص أكيد من الملك عبد العزيز على نشر العلم، فكانت الحكومة ترسل وفوداً وسيارات لجمع الطلاب الذين يتخرجون في الابتدائية، حتى يأخذوهم إلى الطائف ،حيث مدرسة دار التوحيد، التي كانت لكثير من الناس نقلة نوعية في حياتهم، إذ إنهم يتغربون عن أهليهم ويدرسون في الطائف. أهل المجمعة يقولون كان التعليم جزءاً مهمًا من حياتهم.وبقدر ترحيبهم بتعليم البنين النظامي رحبوا كذلك بتعليم البنات.

* على عكس بعض المناطق المجاورة التي سمعنا عن معارك اجتماعية شديدة فيها .

- تمهل يا عبد العزيز.. أنت تعرف أن بعض الناس في بلادنــا كانت لديهم نظرة ريبة وشك حول المدارس الحديثة؛ لأنها شيء جديد لم يألفوه، وبالمناسبة نحن- منسوبي التعليم - نفخر بأن قيادتنا أثبتت بُعد نظرها في مسألة فرض التعليم في بعض الأحيان على أجزاء عارضت إقامة المدارس، وأثبتت الأيام كم كانت النظرة صائبة والحمد للّه. [/align]