في سبيل قراءة صحيحة لعبيد الدبيسي...@
كثرة ألقاب
أبنشغل بك قصيـــد وهم وكتـابة ** فيك القصايد تزين وتقطر عذوبـه
الشعر لولا عيونك ليه أنا اشقـــابه ** والله يالولا هدبهن ما التـفت صوبه
لاشك يوم اكتبه في نجلك أزهــابه** واردده وانثــره باحسـاس واذوبه
لاطار من خافقي لعيونــك اسـرابه ** ارتــاح لني سمعت الحان مسحوبه
والشاعر اللي بخيـــل بنظرة أحبابه **ماهو حسايف لو انه طــول غروبه
وأنا أدري انه كثير الشعر واصحـابه **لاشك نصف القصيــد مضيعٍ ثوبه
ان كان غيري جذبك بكثرة القــابه** لاجــاك قافي يبــين ذاك عذروبه
ماكل نجمِ يقـدي ضـوح مشـهابه **كم ضيع النجم ساري واخلف دروبه
ياللي عيونك خذت ها القلب من بابه**يكفيــني انك تقــول اعجبني اسلوبه
ويكفيك تعرف قصيدي وش هي أسبابه **لو إن شعــري بزينك تكثر عيــوبه
هذه القصيدة للشاعر المبدع سامع صوت الحروف ومتخيلها الشاعر صاحب الفكرة الجديدة وصاحب اللمسة الصوتية المتفردة
عبيد الدبيسي.وهي من قصائده القديمة
وفي تحليل لهذه القصيدة وقراءة متميزة لها قام بها الدكتور غسان الحسن في مجلة الصدى الرائعة في العدد 154 ويقول في قراءته التالي
يقول الشاعر في قصيدة كثرة ألقاب
أبنشغل بك قصيد وهم وكتابة ** فيك القصايد تزين وتقطرعذوبه
الشعر لولا عيونك ليه أنا اشقابه**والله يالولا هدبهن ما التفت صوبه
لاشك يوم اكتبه في نجلك أزهابه **واردده وانثره باحساس واذوبه
لاطار من خافقي لعيونك اسرابه**ارتاح لني سمعت الحان مسحوبه
في هذه الفقرة من القصيدة يرسم الشاعر لنفسه دربا شعريا ينطلق من ذاته ويعود إلى ذاته . بعد أن ينعكس على عيون المحبوب التي هي مصدر إيحاء وإلهام الشاعر .
ومنذ البداية يحدد الشاعر لشعره هدفا وغاية ويكرسه لمحبوبه بدءا بالمشاعر التي ينطلق منها الشعر في الوجدان ( هم وكتابة)
وصولا إلى خروجه شعرا وقصائد جميلة عذبة ( تزين وتقطر عذوبة) . ويؤكد الشاعر على هذه المقولة بأسلوب الحصر حين يخصص الحديث لعيون المحبوبة دون سائر جسدها ( الشعر لولا عيونك) لأن هذه العيون هي التي تستحق المعاناة والمكابدة ثم نراه يخص أهداب العيون بالحديث ويقول ( لولا هدبهن ما التفت صوبه) .
ومن هذا التخصيص يصل الشاعر إلى تخصيص أدق حين يلتفت إلى لون العيون وصفاتها الداخلية ليجعلها محط شعره ومنطلقه (أكتبه في نجلك أزهابه). وفي أسلوب التخصيص المتوالي هذا يبدو الشاعر كمن يملك آلة تصوير يستخدم فيها أسلوب التقريب(الزوم) ليدخل من العام إلى الخاص . ويركز من الكلي على الجزئي، ومن الواضح إلى الخافي إلى المختفي ، فيدخل في ثنايا الطبقات واحدة تلو الأخرى .
ويمكن لنا أن نقول إن هذا الأسلوب يعكس مدى ما تشكله العيون من جمال بديع في نظر الشاعر ؛ فهو معجب بها في مجملها ، ثم في كل تفصيلة من تفصيلاتها، فبدت أمامنا هذه العيون وكأنها حديقة واسعة مليئة بعناصر الجمال في الشكل واللون والتأثير، وهو ما يسوغ لنا هذا الاهتمام الواسع الذي يبديه الشاعر بالعيون ، ويسوغ تكريس نفسه وجهده( أشقى به) وشعره لها ، بل إنه يصل إلى درجة أن يعجب ويزدهي بهذه الأشعار التي يقولها متأثرا بعيون المحبوبة( أزهابه) . ولذا فإنه يروح يشيعها ويذيعها وكأنه ينثر دررا تنعكس أثارها عليه قبل كل شيء فيذوب فيما قاله إحساسا وتفاعلا.
ويصور الشاعر لنا في بيته الرابع هذا التراسل والتواصل والتأثر والتأثير بين عيون المحبوبة وبين قلبه ، فتبدو لنا الأشعر منطلقة من صميم القلب أسراب كأسراب طيور سحريه هلامية تيمم شطر تلك العيون التي كانت سببا في انبعاثها من القلب ثم تعود من جديد لترد إلى الشاعر على هيئة الحان شعريه تريح نفسه وتدخل إليها السرور.
وإذا تصورنا هذه الخطوط التفاعلية التي رسمها الشاعر بين عيون المحبوب وقلبه فإن سنجدها كثيرة عديدة بين ذاهب وعائد فالشاعر يستقي من المحبوب وعيونه شعرا وقصيدا. والشاعر يرسل هذا القصيد من قلبه إلى تلك العيون ، ثم ترتد هذه القصائد إلى سمع الشاعر من العيون الحانا عذبة، وهكذا يكون المنطلق هدفا والهدف منطلقا في مداورة وتبادل مواقع وأدوار.
أما كلمة مسحوبة فقد أشار الشاعر إلى فن المسحوب الشعري الغنائي الذي أبدع المغنون وأبدع العازفون على الربابة في ألحانه وتنويعاتها الجميلة المؤثرة.
وينتقل الشاعر من الحديث عن نفسه خاصة إلى الحديث عن كل شاعر فيما يشبه التنظير والتقنين فالشاعر عنده لافائدة منه إذا لم يجعل من نظر أحبائه وجمالهم موضوعا لقصائده ، بل إن أحدا لن يحس بفقدانه إذا غاب ، لأن شعره سيكون هوائيا بلا موضوع أو هدف أو منطلق . ويؤكد الشاعر أن مثل هؤلاء كثير . بل إن الأكثر من ذلك هم الشعراء المتصنعون المنافقون الزائفون الذين لايبدون على حقيقتهم وقد ينخدع بهم الناس وبمظهرهم الخارجي . وماحققوه بين الناس من شهرة وقدرة في حين أنهم سرعان ما ينكشفون إذا قورنوا بأشعاره الصادقة فتظهر عيوبهم واضحة ويظهر زيفهم ، هو يخص محبوبته بهذا القول لتتنبه إلى هذه الحقيقة :
ان كان غيري جذبك بكثرة القابه**لاجاك قافي يبين ذاك عذروبه
ويذهب الشاعر مرة أخرى من العام إلى الأعم في زوم عكسي ليعطينا مايشبه النظرية العامة أو الحكمة الكونية الكامنة معززا بها مقولته العامة السابقة حتى ترسخ قناعتها في ذهن محبوبته .
ماكل نجمِ يقـدي ضـوح مشهابه ** كم ضيع النجم ساري واخلف دروبه
وعند هذا الحد ينتهي التصغير والتكبير في بناء موضوع هذه القصيدة . وكأن الشاعر قد اطمأن إلى أنه استطاع أن ينقل قناعته إلى محبوبته ، فيذهب بعدها مسترخيا إلى توكيد ماقاله في أبياته الأولى المتحدثة عن عيونها وشعره فيقول:
ياللي عيونك خذت ها القلب من بابه **يكفيني انك تقول اعجبني اسلوبه
ويكفيك تعرف قصيدي وش هي أسبابه**لو إن شعري بزينك تكثر عيوبه
ولولا الشطر الأخير لكانت خاتمة القصيدة مخصصة لشعر الشاعر وموقعه من نفس المحبوبة ، في محاولة الحصول على إقرار منها بجمال شعره وأسلوبه التعبيري وأسبابه ومنطلقاته.
ومن أجل التركيز مرة أخرى على أثر العيون ، اتخذ الشاعر لمحبوبته كنية هي ( ياللي عيونك خذت ) وفي هذا من التركيز ما يجعلنا لانرى من هذه الفتاة سوى عيونها الجميلة في حين أننا لانعلم شيئا عن مدى جمال سائر جسمها.
أما كلمة ( يكفيني) فقد أخلت بعبارات الإعجاب الكثيرة التي استهل الشاعر قصيدته بها ، لأنه هنا نراه مكتفيا راضيا إذا حصل على إعجاب المحبوبة بشعره ليس إلا .
أما هي في نظره أنه يكفيها كذلك أن تعرف معلومات عن شعره منطلقاته وأسبابه.
وهنا يحق لنا أن نفهم أن الشاعر يجعل حرصه على شعره وإعجابه به أزيد من حرصه وإعجابه وانشغاله بهذه المحبوبة لولا أنه استدرك موقفه بعبارة الشطر الأخير ، حين جعل شعره يتضاءل في جماله وروعته أمام جمال المحبوبة وروعتها.
وفي ختام هذه القراءة الجميلة من الدكتورغسان الحسن لهذه القصيدة نشكره ونشكركم .
واحمل الكلام على حسن نية.
المفضلات