رجلٌ عصامي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .. مكافحٌ .. طموح .. مثالٌ حي للشباب الصالح الذي لا يفقد الأمل ويتابع النجاح بالآخر .

أترككم مع قصة الشريف مناحي بن محمد الحسين ، كما أوردها الأستاذ / تركي الدخيل ، في زاويته اليومية في جريدة الوطن السعودية.


الدكتور ... الأمي ! (1/3)

أصدقكم القول، أن قصة هذا الرجل، عبثت بي إيما عبث، وأعادت تكوين الأولويات في حياتي. لم أتذكر عندما روى لي قصته كاملة، إلا مقولة الإمام ابن الجوزي في أحد كتبه، عندما أطال التأمل، فأشار إلى أنه كاد يطيش!
أعلن لكم اليوم، أن هذا العام، 2008، عام سأحتفل به، ليس على صعيد شخصي، بل بسعادة شخصية، بإنجاز شاب سعودي، تعرفتُ عليه قبل أيام في القاهرة، على هامش زيارتي لنادي الطلبة السعوديين هناك.
سأحتفل بإذن الله بالشريف مناحي بن محمد الحسين الشريف، المشرف العام على نادي الطلبة السعوديين، دكتوراً.
لو حصل أخي أو ابني على هذه الشهادة المهمة، لما اكترثت إلى درجة الكتابة لكم، لكن أبا هاشم، له قصة تستحق الرواية فهي من التجارب التي تبعث الأمل في نفوس صدئة!
مناحي، الذي سنحتفل جميعاً بحصوله على الدكتوراه في علم الاجتماع، في العام 2008 بإذن الله، ولد عام 1965، أي إن عمره الآن يوشك أن يبلغ 43 عاماً.
وليس فيما سبق قصة تستحق الرواية!
لكنك إن علمتَ أن الشريف، الشريف، لم يتعلم حرفاً واحداً من اللغة العربية، قبل أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره، سيتملكك العجب، وستستبد بك الأسئلة.
فعمر مناحي الشريف، ليس عمر التعليم المتأخر، ولا سنيه سني مكافحة الأمية، لكنه اضطر، نزولاً عند رغبة والده، ألا يتعلم مناحي ولا يقرأ ولا يكتب، كي يبقى في خدمته، "ونظره أمر، وإشارته إلزام"، كما يقول أبو هاشم.
اختار مناحي الرضوخ لرغبة والده، مع أن التعلم يجري في عروقة. يقول لي: "كنت أقرأ الكلمات رسماً، ولكني لا أستطيع أن أفهم معانيها! لا تتخيل يا تركي كم كنتُ أعتصر ألماً وأنا أرى إخوتي الصغار ينهمكون في دراستهم، وأنا منغمس في متابعة الإبل، وري نخيلنا، والركض بين الزراعة والرعي، لكني أحمد الله أن ذلك انعكس عليَ إيجاباً".
انتهى حديث الشريف مناحي، لكن القصة لم تنته، ولا يجب أن تنتهي، بل يجب أن نفتح بها أبواباً من الأمل، كما فعل أبو هاشم، لله دره... وغداً نكمل.

الدكتور ... الأمي ! (2/3)

مرّ معنا أن مناحي الشريف، الذي يوشك هذا العام على الحصول على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة القاهرة، لم يتعلم حرفاً إلا في الثامنة عشرة من عمره. ولكن كيف قضى هذه الأعوام؟!
يقول مناحي: كنت عملياً أمارس الرعي في الصحراء، ومتابعة إبل والدي، وسقياها ومرعاها. ما زلت أذكر أني كنت في العاشرة أبيت اليوم واليومين والأسبوع وحيداً في معاطن إبلنا، ولا يعيدني إلى القرية إلا حاجة الإبل أو توفير الماء لها.
كما أني كنت أقوم بمهام الفلاحة، متابعاً نخيل والدي في القرية. وأتأمل اليوم، فأحمد الله الذي وفّر لي خبرة من مهنتين في ذات الوقت، هما الرعي والفلاحة.
لكن عام 1982 كان عام المفارقة بالنسبة لمناحي بن محمد الشريف، فهو بلغ الثامنة عشرة من عمره، وفيه قرر أنه لا بد أن ينخرط في صفوف مكافحة الأمية، ليزيل ما بقي في نفسه من ألم على عدم تعلمه، وإن كان مبتهج النفس، مسرور الفؤاد، لكونه يخدم والده، ويحقق مراد أبيه.
لكنه أحس أن ثمانية عشر عاماً في التفرغ لخدمة والده، منصرفاً بها عن العلم، تبدو كافية، وبخاصة وقد بدأ إخوته الصغار يكبرون، ليحملوا عنه الأعباء.
يقول: "قررت الرحيل إلى الرياض، وهناك انخرطت في العمل في وزارة الداخلية، جندياً، وقد كنت أضطر لخدمة الزملاء داخل قطاعنا، فلما سألت: لماذا يُلزم بعضنا دون البعض الآخر، بتقديم الشاي والقهوة للبعض الآخر، علمت أن الفارق كان بالتحصيل العلمي. فزاد الأمر من رغبتي في العلم، فسجلت في محو الأمية ليلاً، واضطررت لكي أتلافى أوقات الخفارة التي كانت تصادف دوام الدراسة الليلي بين السادسة والعاشرة أن أؤخر خفارتي إلى ساعات الفجر، ثم بعد انتهاء الخفارة أذهب لعملي الصباحي. كان الجدول مزدحماً. ولا مكان للراحة فيه، وبخاصة وأنا ابن ثمانية عشرة، لكني كنت مستعداً لكل شيء حتى أعوض ما فاتني. درست السنة بسنتين، إلا الخامس والسادس ابتدائي، فقد كان النظام يلزمك بعام لكل منهما".
ولمّا قرر الرجل الزواج، لم يكن لائقاً به أن يتزوج من غير حر ماله، فاشترى بـ2800 ريال سيارة نقل مهترئة، لكنها تفي بالغرض، وبدأ في غير أوقات العمل والدراسة والخفارة (يكد) بسيارته، حتى جمع بعد عام 48 ألف ريال، أمهر منها لزوجته، من عرق جبينه.
خلال هذه السنوات وفي العشرين من عمره، تزوج مناحي، بفتاة في الخامسة عشرة من عمرها. كانت حاصلة على شهادة الكفاءة. ولأن صاحبنا بارع في تحويل عوامل الضعف إلى عوامل قوة، كان هذا دافعاً له للمواصلة، فمضى الرجل، يعمل صباحاً، ويدرس مساءً، ويرعى زوجته، وأولاده بعد ذلك، حتى أنهى المرحلة الجامعية. وغداً نكمل.

الدكتور ... الأمي ! (3/3)

كيف استطاع مناحي الشريف أن يدرس أربع سنوات جامعية، أثناء عمله؟!
كان نظام الدراسة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يتخذ من الدوام الواحد أسلوباً، فأصبح مناحي، يذهب صباحاً إلى الجامعة، كأي طالب جامعي، ثم عندما ينتهي في الواحدة ظهراً، يلتقط أنفاسه ليبدأ مساءً عمله الذي كان يتيح له فرصة النوبات الليلية، وبين عمل ودراسة ومتابعة لشؤون البيت والأبناء، لم يكن لدى مناحي وقت فراغ. وفي الفراغ دائماً تتمكن الأفكار السلبية من الإنسان، ولم يكن في جدول الرجل مكان لغير الإيجابية.
قبيل إتمامه سنوات الدراسة الجامعية، قرر مناحي أن يترك العمل عسكرياً في أحد قطاعات وزارة الداخلية، لكنه واجه مشكلة آنذاك.
لم تكن الإشكالية، في اتخاذه القرار، فمن الواضح مما روينا من قصة الرجل، أنه رجل اتخاذ قرارات من الطراز الأول، يعلم تماماً أن الرأي لا بد أن يعزز بعزيمة، وبخاصة وقد أيقن أن فساد الرأي في التردد.
إذن أين المشكلة؟!
يقول مناحي بن محمد الشريف:" النظام يلزم الموظف الذي يكمل 18 عاماً في العمل، بالتقاعد"! وفيما يبحث البعض عن التقاعد المبكر، كان الرجل يرفض ذلك قطعياً، فلم؟!
يجيب: لم أكن لأرضى بانكسار نفسي. كيف يمكن أن أتعامل مع نفسي وأنا متقاعد مع أني في النصف الأول من الثلاثينات!
سألته ماذا فعلت؟ قال: قبل أن أتم العام السابع عشر في الخدمة، قدمت استقالتي، وصفيت حقوقي، قبل أن ألزم بالتقاعد!؟
ثم ماذا؟ يزيد: أخذت مكافأة نهاية الخدمة، وافتتحت محل تموينات، وبعد سنة كان المحل محلين، ثم ثلاثة، فأربعة. منها أصرف على بيتي وأولادي، وعلى دراستي في مصر.
قال أبو عبدالله غفر الله له: ذهبت إلى نادي الطلبة السعوديين في القاهرة، محاضراً، فوجدتُ بضاعتي المزجاة، لا تداني بضاعة أحدهم، فاستمعت واستمتعت، حتى لا أزيد على الحشف سوء كيلة، واسألوا أبا هاشم، ففي تجربته ما لا تقوله الكتب، ولا تعلمه الجامعات، وبالتأكيد... فيها ما لا ينظر به المحاضرون!