يرحمك الله يا أخي سالم ...اعتدت على اللعب ومناوشة أقراني بعد الانتهاء من حلقة القرآن الكريم وقبل صلاة المغرب أتذكر وقتها أن تسجيلي في هذه الحلقة كان بمحض إرادتي ودون تأثير من أحد والسبب حاجتي الماسة للمال لإصلاح دراجتي الهوائية فقد كان يصرف لطلاب هذه الحلقات مبلغ تسعون ريالاً شهرياً وهذا كان كافياً لإصلاحها .
في هذا المسجد الذي عرف كل الحي باسمه لفرط شهرته كانت تقام هذه الحلقة وكان طلابها من نفس الحي ومن بعض الأحياء المجاورة وكانت تدور بينهم كثير من المناوشات والمعارك أحياناً بسبب قانون الأحزاب سيء الصيت والقديم جداً قدم هذا المسجد إذ كان كل حي حزب مستقل لوحده ينشر ثقافة الكراهية مع جميع الأحياء الأخرى ورغم تجمعنا في المدارس وتجاورنا في مقاعد الدراسة إلا أننا لم نكن ننسى انتماءاتنا الحزبية وقد نتواجه في معركة من المعارك التي قد تصل إلى العصي والهروات وقد يتطور الأمر إلى استخدام السلاح الأبيض .
في ذلك المسجد كان يجتمع الصالح والطالح رغبة في تعلم القرآن الكريم أو رغبة في المال ، وفي تلك الأجواء تعرفت على صديقي سالم ورغم مزاملته لي في المدرسة إلا أن العلاقة الحقيقية كانت في المسجد ولم تكن في بداياتها علاقة محبة بل علاقة كراهية متبادلة ومعارك دامية وحرب كر وفر ظلت مشتعلة حتى تركُنا للمسجد وانقضاء تلك المرحلة الصبيانية وبداية مرحلة جديدة خفت فيها هذه المعارك وانتشر الوعي نوعاً ما وأصبح من الممكن تكوين صداقات من أحياء أخرى بسبب تصفية الأحزاب واستبدالها بالقوائم الفردية ، خلال تلك الفترة استمرت علاقتي بأخي سالم وأصبح يشوبها كثيراً من الترقب والتوجس فلم يكن أحدنا يأمن كثيراً للأخر حتى انتقلنا للمرحلة الثانوية فبدت العلاقة تصبح نوعاً ما طبيعية ولكنها لم تستمر طويلاً بسبب اتجاهه للقسم الأدبي واختياري للقسم العلمي وانقطعت اتصالاتنا بعد المرحلة الثانوية لأعرف لاحقاً بأن أخي سالم أكمل دراسته الجامعية ملتحقاً بكلية التربية وحصل على إجازة تدريس اللغة الانجليزية وقد أثار ذلك استغرابي الشديد فسالم الذي أعرفه لا يمكن تخيله يتحدث اللغة الانجليزية بأي حال من الأحوال وبقيت على نظرتي تلك حتى شاء المولى أن نلتقي مرة أخرى ونكون قريبين جداً وقتها نضجت هذه العلاقة نضوج كلينا وبدت تأخذ مسارها الصحيح وبدأت أتعرف على أخي سالم عن كثب لأكتشف شخصاً أخر صقلته الأيام وأول ما أدركته تمكنه من تخصصه بشكل ملفت للنظر وإتقانه لعمله حتى تم ترشيحه للعمل مشرفاً تربوياً .
أنعيك يا أخي وأنا أتذكر ذلك المسجد وأتذكرك وأنت قادم مع رفقائك تنشدون تعلم القرآن الكريم لم يثنيكم عن عزمكم هذا ترصدنا لكم في كل خروج وقبل كل صلاة مغرب ، وأنا أكتب الآن ينهمل دمعي على خدي معلناً ساعة الفراق وطاوياً لصفحاتٍ ملأت بالكثير من الذكريات الجميلة ، أخي لم أجرب يوماً أن أناديك بغير سالم فأنا لا أعرف لك كنية ولا أريد أن أعرف فأنا عندما أناديك بسالم أستحضر تاريخاً قديماً لا يمكن لكلينا نسيانه أخي لا أريد أن أكنيك حتى لا أشعر أنك غير ذلك الصبي الذي عرفته وكرهته وأحببته ، أتذكُر عندما قابلتُك عند باب المسجد وأخذت أمازحك وأنا أتذكر معك كيف كنت تتفوق علينا جميعاً في قدرتك على إبقاء رأسك تحت الماء أطول فترة ممكنة ، لا يهم إن كان ذلك في براميل الماء الخاصة بالبناء فتلك حياتنا التي عشناها ومن خلالها أصبحنا كما نحن الآن وقتها ضحكت كما لم تضحك من قبل ولم تحاول أن تنكر ذلك الماضي بحكم أنك أصبحت مشرفاً تربوياً لك مكانتك الاجتماعية في هذا المجتمع الهش وقتها ازداد رصيد محبتك في قلبي ، لأنني أعشق البساطة وأحب البسطاء ، أخي سأظل أناديك بسالم وسأخاطب روحك بهذا الاسم وستبقى عنواناً للصفاء ، لقد رحلت أخي وأنت سالم من الكراهية فلا أذكرك ذاماً لأحد أو لاعناً لأنك وطنت نفسك على المحبة للجميع ولم تحمل في نفسك ضغينة لأحد ، وحتى عندما أُغضبك بسلاطة لساني لم تنجح يوماً في ردة فعل توازي ما تسمع فكنت تحاول أن تظهر غضبة لكنها سرعان ما تتحول إلى ضحكة وابتسامة تنير وجهك ثم تمضي تاركاً إياي أتعلم منك الحلم وكل خلق جميل .
أخي عندما بُلغت بفقدك لم أصدق أنني لن أراك بعد اليوم ولم أتخيل أنك لن تأتيني كما عودتني في كل صباح لشرب القهوة التي كنت تعشقها أخي كم تمنيت أن يكون في الأمر لبسٌ وكم حاولت تحاشي هذا الأمر ولكن عندما تيقنت قلت كما يقول كل مسلم حسبنا الله ونعم الوكيل وإن لله وإن إليه راجعون ، لن أنسى لك يا أخي التماسُك لي كل العذر وأنا أخذلك أمام أخيك وأبيك وقتها لم تظهر لي حقداً كما يفعل غيرك ولم تحاول التقليل من مكانتي ولم تنعتني بأي وصف بل بقيت على الدوام هاشاً باشاً في وجهي ، أخي سأصارحك بأني سأفتقد تلك البهجة والحبور الذي كنت أشعر بهما كلما صادفتك ، كم تمنيت أخي لو أستطيع أن أقرض الشعر كي أرثيك ولكني لا أجيد نظم القوافي وليس لي غير قلمي هذا الذي يسطر لك هذه الرسالة رغم تيقني أنك لن تقرأها ولكن هي خلجات في النفس يريحها أن تظهر بعد أن أجرت دموعي على خدي وجعلتني أمشي كالمهوس مردداً سالم قد مات ، أخي لن أمتدحك بقول أو فعل أعلم يقيناً أنني لست وحدي من يعلمه بل كل من كان قريباً منك وكل من تعامل معك يعلم أكثر من ذلك ، أخي لقد كان فراقك عظيم جداً والمصاب بفقدك كبير ولكن تسليتي ما نقل لي من ذكرك قبل موتك بثواني للآية {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }لقمان34 .
ومن يتذكر ذكر الله في تلك اللحظات نحسب أنه إن شاء الله على خير ، وما قيل لي بأنك نطقت الشهادتين قبل أن تسلم روحك لبارئها يجعل حزني عليك أقل بكثير فيكفيك أنك بأذن الله مشمول بأحاديث حسن الخاتمة التي رويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- أنه قال:" ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلّم-:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وقال -صلى الله عليه وسلّم-:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر،
وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه ".
وعن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلّم- يقول:" إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفَّس الله عنه كربته ". فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إني لأعلم ما هي. قال: وما هي؟ قال: تعلم كلمة أعظم من كلمة أمر بها عمه عند الموت:" لا إله إلا الله "؟ قال طلحة: صدقت؛ هي والله هي[3[.
وما نقل لي عن تلك الابتسامة التي ظلت ترافقك دائماً وبقاؤها ظاهرة على وجهك حتى وأنت مسجى في قبرك ذلك يجعلني أفخر بك وأعتز بصداقتك وأكرر على الدوام يرحمك الله ياسالم ... يرحمك الله ياسالم ... يرحمك الله ياسالم .
المفضلات