حوار خاص جداً مع معالي الوزير ...
استحضر دائماً صورة قديمة لمعلم يمر بأحد أزقة حارتنا ، أتذكر وقتها أننا كنا نفر من أمامه بأي اتجاه المهم ألا يرانا ، رغم أننا لم نقم بما يستوجب العقاب ، لكن هي الهيبة التي زرعت في أنفسنا باتجاهه ،كنا نشعر أننا مهما كبرنا فلن نصل إلى علو هامته ، ورغم سنه الصغير أحياناً إلا أننا كنا نعتقدهُ كبيرً جداً فلم نكن نصدق ، أو حتى نتخيل أن هناك معلم يقل عمرهُ عن الخمسين أو الستين عاماً ، كنا نراه كبيراً فمن الذي جعله صغيراً ؟؟!!!
وقتها كنا لا نجرؤ على إخبار الأهل أن المعلم قد شد أرجلنا في الفلكة ، وهذه لمن لا يعرفها عبارة عن عصاً غليظة مربوطٌ في طرفيها قطعة قماش أو حبل حسب الموجود توضع هذه العصا تحت القدمين والقماش في الأعلى تم تلف حتى تشل حركتنا ونحن مستلقين على ظهورنا وطبعاً من يقوم بهذه العملية هم زملاؤنا الأعزاء ولا بأس بذلك فنحن نقوم بنفس الدور في وقت أخر والهدف من هذه العملية عدم إزعاج الجلاد ، أسف أعني المعلم وهو يصب جام غضبه علينا باستخدام مبروكة ( اسم الدلع للخيزرانة التي يطبق بها الحدود علينا ) كانت نتيجة هذه الهمجية في التعامل أن نذهب زحفاً إلى فصولنا ورغم ذلك كنا نجتهد كثيراً في إخفاء أثار هذه الجريمة حتى لا نعاقب مرة أخرى عندما نعود للمنزل فالأهل إذا رأونا بتلك الحالة المزرية سيعلمون أننا قد ارتكبنا ما يستوجب هذا العقاب ، فالمعلم بالنسبة لهم يبقى دائماً فوق مستوى الشبهات .
كنا نرى منهم ـ أي المعلمين ـ أخطاء فهم لم يكنوا ملائكة ، ولكن من سيستمع إلينا إذا تحدثنا بذلك ؟ لقد كانوا وجهاء في مجتمعاتهم لهم صدر المجلس أين ما حلوا وغاية كل فرد في مجتمعنا أن يحل أحدهم ضيفاً عليه فيزداد شرفاً ، وعندما يذهبُ والدٌ للمدرسة بغية التسامر مع حضرة الناظر أو مدير المدرسة أو الشيخ كما يحلو للكثيرين تسميته ، أقول عندما يذهب هذا الوالد للمدرسة لابد أن يحفظ تلك العبارة التي بسببها سلخت جلودنا وقطعت أيدينا وأرجلنا هذه العبارة( لكم اللحم ولنا العظم ) كانت تقر بأننا ذبيحة لهذا المعلم يبره الوالد بلحمها ويستسمحه بأخذ العظم ، ونخوض نحن التجربة حتى نكون في القادم من الأيام جلادين موقرين محترمين مبجلين أو معتوهين نتسكع في الشوارع يحنوا علينا هذا المعلم بفضلة ماله .
أتذكر في تلك الأيام أننا كنا نشاهد المعلمين يرتكبون الكثير من الموبقات الموجبة للحدود الشرعية بالفعل فلم يكن مجتمع المدرسة ذلك المجتمع المثالي ولو بحده الأدنى ، ولكن هي الحصانة التعليمية فيبدو وقتها أن ما يحمله المعلم بيده هي الشنطة الدبلوماسية والفلكة الدبلوماسية ومبروكة الدبلوماسية وقد تكون الزجاجة الدبلوماسية !!!!
وحتى لا أكون مجحفاً فقد كان منهم قمماً في التربية والأخلاق ومنهم مثقفون وأدباء والفضل في ذلك يعود للقراءة ولأنه لم يكن يكتُبُ في ذلك الزمان سوى الأدباء ولم يبتلى القلم بأمثالي من اللذين لا زالوا رغم جامعيتهم وخبرتهم يلحنون في القول ويقعون في الكثير من الأخطاء الإملائية وينسبون ذلك إلى سوء الخط !!
كان المذياع من وسائل الترفيه التي قد لا تتوفر إلا للطبقة الراقية من المجتمع وهذه قطعاً يمثلها المعلم ، فكانوا يستمعون من خلاله لجيل العمالقة من أدباء ومثقفين وشعراء ومفكرين ، وقتها لم تكن المادة تتحكم في كل شيء كما هي الآن فتحدد من الذين يكتبون ومن الذين يتحدثون ومن الذين يأكلون و يشربون و ينامون ومن يكونوا أحراراً طلقاء ومن شرفٌ لهم أن يسجنون !!!!!
ذلك المجتمع هو الذي أعطى للمعلم تلك المكانة التي جعلتنا قد لا نتبين ملامحهم كوننا لا نستطيع أن نرفع نظرنا إليهم ، فهؤلاء المعلمين هم عظماء القوم من مفكرين ومبدعين وأدباء وعلماء وكان يكفيهم فخراً أن يردد الناشئة لأحمد شوقي :ـ
( قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا ).
ياه ، كم هو جميلٌ في ذلك الزمان أن تكون معلماً وكم هو سهلٌ أن تكون كذلك فالأمر لا يتطلب أكثر من شهادة المرحلة الابتدائية وقلم أزرق وأخر أحمر وعصاً غليظة ، وهذه قد تعطى لك هبة من أولياء الأمور أو من حضرة الناظر وربما يتكفل بها طلابك ويكفيك أنت أن تشرفهم باستخدامها على ظهورهم ( ثقافة الخضوع والخنوع ) .
يبدو أن وزيرنا المحبوب قد مر به هذا الطيف المرئي الذي مر بي وهو يخبرنا أن المعلم صفوة المجتمع !! إن صاحب المعالي لا يستطيع أن يمحوا هذه الابتسامة التي تعلو شفاهنا كلما سمعنا منه هذا القول ، ونكاد نصاب بهستريا من الضحك ونحن نبحث عن هذا المجتمع ، ولكن قد نحاول الوصول للوزير كي نسأله عن أي مجتمع يتحدث ؟!! وأي معلم ذلك الذي يصف ؟!!
لن أجاملك يا معالي الوزير ولن أقبل ما تقول إلا إذا كنت تضعه كخطة مستقبلية أو أن يكون طموح شخصي أو أنك تستنهض هممنا فتطرحه كثيراً على مسامعنا حتى نتقمصه ويتقمصنا ونتحرك من خلاله مقنعين أنفسنا بأنا فعلاً نمثل الصفوة ( الطريقة الإيحائية ) ، أما أن يكون هذا واقعنا فلا وألف لا فنحن لسنا بهذا المجتمع والمعلم الذي نعرفه لا يستحق أن ينال هذه المنزلة ( إلا من رحم ربي ) حتى وإن أغضب ذلك الكثير من المعلمين وأنا منهم بالطبع ، فالتعليم الآن مهنة من لا مهنة له ومن يأتي لهذه المهنة بهمة عالية يخرج منها محبطاً ومصاباً بعدوى فقدان الإخلاص في العمل والقدرة على الإبداع وقد تتطور الحالة فيصاب بفقدان الإحساس ( هذه طبعاً قبل كارثة الأسهم فالقائمة طويلة جداً بعد هذه الكارثة ) وهكذا تستمر هذه الصورة السيئة كواقع نعايشه يومياً ، ويكفل لهذا الواقع أن يستمر كثيراً من الطرح غير النزيه والمنافق ، هذا الإعلام الذي لم يستطع أن يقول لهذا الوزير عفواً أنك لا تستحق أن تكون وزيراً لأنك لم تشخص الواقع ورضيت أن نزيف لك الحقيقة وعجزت عن وصف العلاج .
سأكون حاداً معك وأنا أخبرك يا وزيرنا المحبوب أنا المعلم عندما يكون صفوة المجتمع فلن تكون أنت الوزير ولن أكون أنا ذلك الكاتب والناقد إن كنت كذلك وسيتولى هذه المهمة نيابة عني وعنك من أفنوا عمرهم في التربية والتعليم وقتها لن يتساوى المبدع مع أرباب السوابق في العلاوة السنوية ولن يختبئ هذا المعلم هرباً من بعض طلابه ولن يضطر إلا التسامر معهم في الكازينو إلى منتصف الليل حتى يرضوا عنه ويتركوا له المجال غداً في إكمال حصته ، ولن يقوم هو بإدخال السجائر إلى المدرسة ليوزعها على المتفوقين من طلابه ولن يسعى بكل ما أوتي من قوة أن يبقى في المرحلة الابتدائية حتى ولو لم يناسب مؤهله هذه المرحلة ، ولن يتساوى في الأعمال من أمضى في الخدمة ثلاثون عاماً مع أحد طلابه بعد أن أصبح معلماً ، لن يكون مديراً أو وكيلاً أو مرشداً طلابياً أو أميناً لمصادر التعلم من كانت علاقاته واسعة !! ولن يبقى في التعليم من قل أدائه وستقوم الوزارة باشتراط أعلى التقديرات للمتقدمين للوظائف التعليمية وحبذا لو أرفق معه شهادات وقد لا يشترط في هذه أن تكون تعليمية بل سيقبل شهادة الخبرة من شركة أرامكو وسامرف وينساب والاتصالات السعودية وباقي الشركات ، وستقوم الوزارة بتأمين العلاج المجاني والسكن المجاني ولك أن تمتلك سيارة بالتقسيط بسعر الدفع الفوري مع أي شركة تحددها ويشترط لذلك أن يكتب اسمك في لوحة الشرف أنك أحد عملائها وستخصص الدولة 50% من ميزانيتها للتعليم وستصبح رواتب المعلمين أعلى الرواتب بين جميع المهن الحكومية وغير الحكومية وسوف تفتتح الكثير من مراكز الأبحاث المتخصصة في الجودة النوعية للتعليم لدراسة وموائمة ما يستجد في العالم من طرق وأساليب تربوية لمجتمعنا المحلي ، وقتها لن تحتاج لكثير من الفهم حتى تدرك أن الواقف أمامك معلماً وسوف تتيقن بأنه معلماً للغة العربية وتعجب وأنت تراه يناقش زميله معلم الفيزياء أو الرياضيات في مسألة نحوية يرجح فيها قول زميله وستستحي أن تقف أمام معلم التربية الإسلامية بما له من هيبة ووقار وستضطر أن تقبل يده إجلالاً وتقديراً له قبل الخوض معه في أي مسألة وترأف لحال هؤلاء الطلاب الذين يقفون أمام هذا العالم الجليل كيف لهم أن يسألوه وتعجب كثيراً وأنت ترى جميع المعلمين والطلاب يحملون نفس الشنطة لتعرف فيما بعد بأن بها جهاز حاسب آلي محمول ثم صرفه لهم من قبل الدولة هذا العام وسيصرف لهم في العام القادم جهاز آخر وأكبر معضلة قد تواجهك هي أن تحدد معلم اللغات الأجنبية ( الانجليزية والفرنسية والألمانية ) فكل من تواجه من المعلمين يتقن هذه اللغات الثلاث بلهجات أهل البلد الأصليين وتزول حيرتك عندما تعلم أن من شروط القبول في مهنة التعليم إتقان هذه اللغات حتى من معلم التربية الإسلامية وتدرس مادة اللغات من جميع المعلمين كحصص إضافية ، وتزداد فرحاً عندما تعلم أن معلم التربية الفنية بارعاً في جميع المدارس الفنية من سريالية وواقعية وتجريدية وتجد أن له بصمة في كل مدرسة من هذه المدارس الفنية تظهر على أروقة المدرسة ، وتحنو على هؤلاء الطلاب ، كيف لهم أن يجتازوا مثل هذه المادة وهم قطعاً ليسوا فنانين ولكن قد يزيل ما بك من هم علمك لاحقاً أن ما يزين أروقة المدرسة من إنتاجهم فالأنظمة تمنع منعاً باتاً أن يعلق بالمدرسة غير إنتاج الطلاب .
وقتها يا معالي الوزير لن يتبجح أحدهم أمام مدير المدرسة قائلاً أنه يريد من أبنه أن يكمل دراسته ويتخرج من الجامعة ويعمل على الأقل معلماً !!! ولن تذهب الوزارة في سبيل إرضائها لوزارة الخدمة المدنية ، أن تقدم جزاء سنمار لكل من أفنى عمره خدمة للتربية والتعليم وتفاخر بأنها أعادة صفوة الصفوة كم كنت تقول إلى الميدان تاركة الصفوة تشمت بصفوتها ، ويبقى هذا الناقد الذي لا يستطيع أن يواجهك بأخطائك ــ رغبة ورهبة ــ أسدٌ على هؤلاء يجمل لك كل قراراتك ويوهمك كما أوهم غيرك بأنك تسير على الطريق الصحيح باحثاً دوماً عن كبش الفداء الذي يلصق به كل أخطائك وهذا لن يكون بالطبع سوى المعلم أما أنت فلك أن تستثمر خبراتك في وزارة أخرى !! قد تستطيع أن تشخص واقعها وأرشح لك وزارة الصحة حتى تعلم أن الطبيب لا يصف العلاج لمريض بعد استجوابه فقد يكون كاذباً أو واهماً وإنما له أن يستخدم كل أدواته وأجهزته لتشخيص مرضه وأن لم يستطع فالأمانة تقضي أن يتنحى جانباً ويرشح له طبيباً آخر ...
ملاحظة أوردت في سياق المقال اسم مبروكة ويعلم الله أني لا أستهدف بذلك معلماً بعينه اشتهر باستخدام هذا المصطلح ولكن استخدمته لأنه راق لي كثيراً محققاً المعنى الذي أريد ولم أجد غيره يحقق لي نفس الهدف .
الإمضاء معلم فاشل
المفضلات