من حفر الأخدود ... قوم عادٍ أم ثمود ؟!!!
تنتابني أحياناً حالة غريبة أكون فيها غارقاً في التفكير في شيء ما ، ولا أصحو من هذا الشرود الذهني إلا عند سماع أي صوت ، كأن يحدثني شخص فيوقظني من حالتي هذه ليتبين لي أو له تفاهة ما كنت أفكر فيه ، أتذكر في إحدى المرات كنت واقفاً على الرصيف بجوار أحد المطاعم الشامية في مدينتنا الحالمة ! عاصمة الغوص !! ينبع !!! كنت غارق في التفكير وأنا أنظر إلى أخدودٍ حفر حديثاً في الشارع ، ولم أصحو من حالة التوهان هذه إلا على صوت أحد الإخوة السوريين يسألني بشو عم بتفكر؟ نظرتُ إليه وكأنه أيقظني من حلمٌ جميل أُه .. نعم .. بدء لساني ثقيلً وأنا أتأسف منه موضحاً أنني لا أتسكع أمام مطعمه ، وإنما سرحت قليلاً وأنا أحاول أن أتذكر من حفر هذا الأخدود شركة الكهرباء أم الاتصالات ؟!!
فوجئت وقتها بالأخ السوري ينفجر ضاحكاً بشكل هستيري حتى كاد أن يستلقي على ظهره من شدة الضحك ، تنبهت قليلاً وشعرت ببلاهة ما قلت ، لكن الأمر لا يدعو لكل هذا الضحك ! عاودني للحظة ذلك الإحساس القديم الذي شعرت به عند تحاوري مع أحد الأطباء من إحدى الجنسيات العربية ، تلك النظرة الدونية التي كانت تخنقني ، لم يكن يتقبل مني هذا الطبيب أن أستفسر عن حالتي المرضية ، وأسبابها ، وحتمية التحاليل التي ستجرى لي !! ونوعية الدواء الذي سيصرفه لي ، لاعتقاده عدم فهم ما سيقوله لي على أساس أننا متخلفين ( بعيدين عن ركب الحضارة ) ، وقد يكون له بعض الحق في ذلك فنحن نعتمد عليهم في كل شي ولا يستطيع أحدنا حتى تغيير دولاب سيارته ، كنت أتعمد أن أطيل الحديث معه مظهراً ما أملك من معلومات شحيحة عن الطب وعن غيره من العلوم لعلي أقنعه بأننا لسنا كذلك ، أوعلى الأقل أنا لست كذلك ، مظهراً له أن اعتمادنا عليهم في بعض الأمور ناتج من انشغالنا بما هو أهم ، ولأننا نملك المال ومن يملك المال ليس بحاجة لأن يجهد نفسه بأمور يمكن لغيره أن يقوم بها .
كنت أقول له ذلك وأنا غير مقتنعٍ فهناك بالفعل الكثير من القصور الذي يستوجب المراجعة فلا يعقل أننا وبعد كل هذه السنين ،وبعد أن أصبحت دولة متخلفة مثل سوريا ( كما يصنفها الغرب المتحضر ) تعتمد اعتماداً كلياً على المنتج المحلي في الزراعة والصناعة ، أقول لا يعقل أن يكون لدينا كل هذا القصور .
لقد غبت عن الوعي تقريباً كعادتي ولم أنتبه إلا على صوت الأخ السوري مرة أخرى وهو يهزني من كتفي و يسألُني ما وصلت لهــــلأ للي حفروا الأخـــــــدود ؟ نظرت إليه وكأنني أصحو من نوم ِ عميق وشاهدت بقايا ابتسامةٌ على وجهه ذكرتني بأنه كان يهزأُ بي قبل قليل ، ويبدو أنه فهم ما يجول بخاطري فبدأ يتأسف عما بدر منه وأخبرني أنه لم يستطع أن يتمالك نفسه عندما ذكرت له أنني أفكر في هذا الأخدود ، وأخذ يروي لي كيف أنه وقع في نفس الحيرة عندما رآه لأول مرة قبل غيابه لمدة عشرة أيام ، وتضجره عندما عاد ووجد أن العمل لم ينتهي بعد معتقداً بأن هذه الحفرية لا زالت لشركة الكهرباء ، واكتشافه بعد مخاطبتهم أن هذه حفرية أخرى لشركة الاتصالات وأن شركة الكهرباء قد أنهت أعمالها خلال يومين لتتيح المجال لشركة الاتصالات !! وظهر لي أن هناك تنسيق كبير بينهم في هذا الأمر ، وأكمل هذا الأخ أن حالة الضحك هذه أصبحت تنتابه كلما نظر إلى هذه الأخاديد التي تملئ شوارعنا وذكر لي أنه وقف على أكثر من عشرة مشاريع من هذا النوع أمام مطعمه وبدأت أشاركه الضحك عندما تذكرت أن وزارة المياه والصرف الصحي أصبحت منافسة لهاتان الشركتان !!
ودعت هذا الأخ السوري بعد أن عُقدت بيننا صداقة قوية ، أقوى من أي تنسيق بين كل الشركات العاملة في حفر الأخاديد ، ولكنني عدت لحالة التوهان القديمة عندما تذكرت أن دولة مثل فرنسا أنشأت بنيتها التحتية قبل مائة عام من الآن بحيث أن شركة المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي يمكن لها أن تقيم أي مشروع وأن تطور أي مشروع قائم دون أن تحفر ولو أخدود صغير واحد 00وأصبح من المعيب جداً أن تجد أي عامل لهذه الشركات يعمل في الشارع العام ، وإنما يكون ذلك في الأنفاق التي عملت لهذا الغرض ، تذكرت ذلك وأنا أحاول أن أسترجع شريط الذكريات ، متسائلاً كم مرة أعيدت سفلتت شوارعنا ؟ وكم مرة أعيد رصف أرصفتنا ؟ وكم مرة استبدلت أعمدة إنارتنا ؟ وكم مرة أقيمت مجسمات جمالية وهدمت ؟ وكم من الأموال على كل ذلك قد صرفت ؟ وكم وكم وكم والسلسلة طويلة جداً تكاد لا تنتهي ، ورغم كل هذا فإننا لا نحتاج إلى كثير فهم كي ندرك عند مرورنا بطريق جدة أننا قد انتقلنا من حدود الهيئة الملكية إلى حدود بلدية ينبع ؟
يا لها من مدينة حالمة ، لم تعش الواقع بعد ولم تدرك أن كل هذه المشاريع ليست لها وإنما لأصحاب هذه الشركات ومن يقف وراءهم !!!
لقد شعرت بعد كل هذه المعاناة أنه من الأفضل لي أن أظل سارحاً خارج هذا الواقع الذي نعيشه حتى لا أرى هذه الصورة القاتمة وحتى لا أسمع أحدهم يذكرني بأن الخير موجود وأنني لا بد أن أزيل هذه النظارة السوداء التي أرى من خلالها .
وقبل أن أودعكم سأروي لكم طرفة من الواقع الذي نعيشه حتى لا تعتقدوا أنه كله مبكي :
إحدى الشركات العملاقة والتي تدخل مناقصات كبيرة جداً في أكثر من مجال أسند أليها سفلتت أحد الشوارع المهمة في مدينتنا الحالمة ، كما أسند إليها مد أنابيب المياه تحت نفس الشارع ، فما كان منها إلا أن بدأت بسفلتة الشارع وبعد الانتهاء منه قامت بحفره خلال مدى زمني بسيط ( أيام ) لمد أنابيب المياه ، أقسم بالله العظيم أن هذا الأمر قد حصل .. هي استغرقوا في الضحك
لقد أطلت عليكم كثيراً كعادتي ولكن ربما يكون اعتذاري عن ذلك شفيع لي أن أكتب مرة أخرى
وليتني أستطيع أن أفرحكم بأخبار هذه المشاريع الجديدة باستمرار
كما يفعل غيري على الأقل حتى لا أطيل
وإلى أن أتقن ذلك أرجو أن ... تسامحونا