على دَرب التسنيدة
الكُتاَّب

التسنيدة أعادت ليَ الذكرى .. فقد تذكرت أن خالي يرحمه الله كان يمتلك حماراً [ أكرمكم الله ] يستعين به على الذهاب من بيته في ( عين علي ) إلى سوق الجابرية ، فقد كان في بدايات حياته ميسور الحال ، يتسبب في البيع والشراء مما مكنه من شراء هذا الحمار .

وكان يردفني معه صباحاً على الحمار عندما يذهب إلى دكانه ، فأنا كنت صغير السن آنذاك لم أتجاوز السابعة من العمر، ليوصلني في طريقه إلى مسجد صغير في قرية عين عجلان ؛ وهذا المسجد يُقال له (مسجد معَيْطي) نسبة لمن أنشأه وهو من الأساودة ، بُني على (الدبل) بين النخيل لا يبعد كثيراً عن (شريعتها) ، والعين تعبُر من أسفل جداره الشمالي خلال (قصبة) نمت على بدايتها شجرة حناءٍ كبيرة زينت أطرافها زهر الفاغية .. أكاد أشْتمُّ رائحتها الآن ، وبعد أن يتأكد من وجود الشيخ يواصل سيره إلى الدكان ، حيث يربط حماره إلى شجرة على (الزبارة) بجوار السوق .
في هذا المسجد نتلقى صيفاً من شيخه بعض المعارف لأبجديات الحروف [ أبْجَد ، هوَّز ..... ] ويحفظنا قصار السور من القرآن الكريم بالترديد خلفَهُ حتى نُتقن قراءتها وحفظها .

ليس هذا المقصود من التذكر معرفة كيفية التعلم في ذاك التاريخ .. إنما هي الصورة التي تُعيد نفسها عندما يحاول الإنسان أن يتذكر جزءاً ولو يسيراً من ماضيه الجميل ، فعندما يأذن لنا شيخُنا بالانصراف ضُحىً وقد علَّق كلٌ منا في رقبته حقيبته المصنوعة من قماش الخام وفيها نضع لوح الخشب الذي نُدوِّن عليه ما نتعلمه وكِسرة خبز نسُد بها رمق الجوع .. ننطلق على طول الدبل في (الخيف) نلهو ونلعب ونتقافز من جانب إلى آخر ، دون أن نقع في العين وهي تجري فيه صافية رقراقةً ، حتى نصل إلى الشريعة فنتسابق إليها [ لِنتَروَّش ] فيها بعد أن نُعلق ثيابنا وحقائبنا على (كِرناف) النخل ، ثم بعد ذلك أرتَقِي (الدَّف) الذي يحيط بالشريعةِ لأذهب إلى سوق الجابرية وهو قريب ولا يفصل بينهما إلا الطريق التي تسلكها قوافل الإبل وفيما بعد السيارات فبل الخطوط المعبدة .

تذكرت خالي وهو يُصرُّ على إعادتي إلى البيت ظهراً مع أحد معارفه من أهل القرية إذا كان يمتلكُ حماراً ، لعلمه بأنني لن أستطيع صبراً على الجوع حتى المساء ؛ فالوجبة الرئيسية في ذاك التاريخ واحدة فقط ، وبعد صلاة المغرب .. وإذا لم يجد من يمتلكُه بعثني معه على حماره (فلهيب الرمضاء) لا يُطاق مع شدة حرارة الصيف ، وهو يبقى في دكانه ليعود في المساء راجلاً.


****
الدَّبِل : جمعه دُبُول ، هو جدول الماء الرئيسي الذي يتوسط المزارع من بدايتها وحتى نهايتها وعلى جانبيه الطريق.
الشريعة : هي أول مخرج الماء من الأرض ومنها يتم توزيع المياه على القنوات والسواقي .
القصبة : هي مجرى للماء بُنيت جوانبه وسقفه من الصخور ، وعادة ما يكون ماراً من تحت البيوت أو إذا اعترضت القنوات الطريق.
الزبارة : هي أرض مرتفعة بجوار المنازل أو المزارع نتيجة تراكم الأتربة المستبعدة من المزارع عند تسويتها للزراعة.
الخيف : هو ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مجرى السيل وهو مجموعة البساتين والمزارع المتجاورة وتُسقى من عين واحدة يحكمها نظام واحد ، كأن نقول خيف عين علي ، خيف عين سلمان ، أو خيف السويق .
الكِرناف : واحدتها كِرنافَة ، وهي الجزء المتبقي على جذع النخلة بعد قص الجريد .
الدَّف : هو كثيب من الرمال الناعمة المتراكمة نتيجة هبوب الرياح المتعاكسة، ولم أتمكن من العثور على مدلول بأن اسمه " الدف " ولكن ربما أخذ هذا المسمى من أنه في الغالب ما يتم عليه اللهو واللعب وضرب الدفوف في الليالي المقمرة فسُمي بالدَّف .