الجار ما قرُبَ من المنازل من الساحل (1). وبتخفيف الراء هو الذي تجيره أن يُضام (2). ويحدد عرام (المتوفى في القرن الثالث الهجري) موقع الجار بأنها على شاطئ البحر "البحر الأحمر" ومرفأ السفن القادمة من الحبشة ومصر والبحرين والصين.

ويصفها بأنها قرية كبيرة آهلة، و بها قصور كثيرة، مضيفاً إليها جزيرة في البحر مقابلة لها في الساحل وهي مرفأ الحبشة خاصة هي جزيرة "قراف"(3).

ولا يختلف عنه اليعقوبي (ت284 أو 293هـ) الذي يصفها بأنها ساحل المدينة وتستقبل مراكب التجار والمراكب التي تحمل الطعام من مصر(4). أما الإصطخري (ت341هـ) فيصفها بأنها فرضة المدينة وعلى ثلاث مراحل من المدينة(5). ويضيف الإدريسي (ت560)، أن المراكب إليها قاصدة ومقلعة وليس بها كبير تجارات.(6)

ويحددها ياقوت (ت626) بأنها تقع على ساحل بحر القلزم وأن بينها وبين المدينة يوم وليلة، وبينها وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وتبعد عن الجحفة بنحو ثلاث مراحل، وهي فرضة للسفن القادمة من الحبشة ومصر وعدن والصين، ويذكر أن شرب أهلها من البحيرة. وقد أصبح البحر الذي تطل عليه الجار يسمى بحر الجار من القلزم إلى جُدة(7).

ويضيف الحميري (ت911) بأنها لها أسواق ومسجد جامع، ولها أحساء خارج المدينة، ولها مواجل لماء المطر، ومنها يصعد من أراد المدينة، ويقدر المسافة بين الجار وبــدر بنحــو عشرين ميلا(8).

ويرى البلادي أن التقديرات للمؤرخين السابقين فيها شيء من الوهم والمبالغة، ومنها القول بأن بين الجار والمدينة يوم وليلة والصواب في رأيه بينها وبين المدينة 200كم وعلى حساب القوافل القديمة خمس مراحل، من المدينة إلى الفريش أو السيالة متقاربتين ثم الروحاء أو المنصرف لقربهما من بعض ثم الحمراء، ثم بدر، ثم البريكة "الجار".

ويصحح القول بأن بين الجار وأيلة "العقبة" عشر مراحل. والعشر مراحل لا تزيد عن 450كم بينما المسافة بين الجار والعقبة تزيد عن (1000كم)، مشيراً إلى أن المسافة بين مكة والمدينة 460كم أي (11) مرحلة فقط (9).

وتقع البريكة التي هي ميناء الجار القديم على درجة 30َ/38ْ طول شرقاً، و40َ/23ْ عرضاً شمالاً(10).

وسبب إطلاق اسم البريكة على الجار لعله يعود إلى وجود البحيرة التي يفيض منها ماء وادي يليل، بالجار، فبعد اندثار الجار استمر ارتياد البدو رعاة الأنعام لهذه البحيرة، وأخذوا يطلقون عليها "البريكة" تصغير البركة.

وأما جزيرة قراف فمازالت ماثلة أمام الميناء (خليج البريكة) وتحمل عند العامة اسم "السلِّجـيَّة" بكسر السين المهملة واللام مع تشديدها وبالجيم المكسورة المشددة بعد اللام فياء مفتوحة مشددة فتاء مربوطة(11).

وكان حمد الجاسر يرى أن الرائس هي الجار التاريخية إلا أنه بعد الدراسة والبحث وقيامه بجولة على الموقع عام 1390هـ تأكد له أن الجار هي البريكة الحالية وشاهد آثارها في مرتفع من الأرض يحفه البحر من جهتيه الغربية والشمالية، حيث يظهر رأس بحر ليس بعميق وتمتد البلدة غرباً في البحر لظهور بعض أساسات البناء القديم قد طمرتها المياه فشاهد أمكنة المساكن وأكوام الرماد وكسر الزجاج والفخار وبقايا أسس أبنية، وآثار قناة، وأفواه حفر ضيقة(12).

ومن الآثار التي شاهدها الأنصاري في رحلته إلى الجار عام 1391هـ وجود آثار رصيف بحري متآكل ومتداعي بفعل الأمواج، وهو مبنى بالحجارة المنقبية البيض المنحوتة بناءاً قوياً، وأكوام مرتفعة ظهر تحتها حجارة منقبية لعلها أسس قصور ومباني، وآثار سور ممتد من البحر في الجنوب الغربي إلى الشمال الغربي ومن الشمال الغربي إلى الشمال الشرقي ومن الشمال الشرقي إلى الجنوب الشرقي كما وجدت شظايا الزجاج الإسلامي متناثرة وملونة، وقطع الفخار الإسلامي القديم. ويرجح الأنصاري أن لسور مدينة الجار عدة أبواب تغلق مساءً وتفتح نهاراً أحدها ناحية المدينة المنورة، وأن في الأبواب أبراج للحراسة والمراقبة لأن سوقها كانت عامرة بالتجارة والبيع والشراء(13).

ويؤكد علي غبان في دراسة آثارية أن بيوت الجار مبنية من الحجر المرجاني المستخرج من البحر أو المقطوع من محاجر الساحل، وأن بعض المستويات السكنية المتتابعة يرجع إلى عصر ما قبل الإسلام، وأحدثها يرجع إلى القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجري، مشيراً أيضاً إلى وجود أنظمة لتصريف المياه المستعملة(14).

وقد قمت بالوقوف على تلال هذه المنطقة التاريخية بتاريخ 28/3/1420هـ، ووجدت كثيراً مما ذكره الباحثون السابقون عن الموقع والميناء والخليج، وبعض الآثار التي طمرتها الرمال الناعمة، ومن بين تلك الآثار قطع الزجاج الملون.

وممن يُنسب إلى الجار من المحدثين أبو عبدالله سعد بن نوفل الجاري، مولى عمر بن الخطاب وعامله على الجار، وروى عنه ابنه عبدالله بن سعد. وعمرو بن سعيد الجاري، وروى عن ابن عمر رضي الله عنه وأبي هريرة، وروى عنه زيد بن أسلم، وعبد الملك بن أعين. ومن المحدثين أيضاً عبد الملك ابن الحسن الجاري الأحول مولى مروان بن الحكم يروى كما يذكر السمعاني المراسيل والمقاطيع، وروى عنه ابو عامر العقدي، وعمر بن راشد الجاري القرشي مولى عبدالرحمن بن أبان بن عثمان، يقال له الساحلي يضع الحديث على مالك وابن أبي ذئب وغيرهما من الثقات، ويشير السمعاني إلا أنه لا ينبغي أن يذكر إلا على سبيل القدح فيه، وسليمان بن محمد بن سليمان الأسلمي العساري الجاري المديني، روى عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن إبراهيم ومالك بن أنس وابن أبي ذئب ونافع بن أبي نعيم، ويحيى بن محمد الجاري يروي عن الداراوردي، روى عنه مؤمل بن إهاب، يذكر السمعاني أنه يقع في المناكير في روايته، ويرى وجوب التنكب عما انفرد به من الروايات وإن احتج به محتج فيما وافق الثقات لم أر به بأساً.

وممن نسب إلى الجار الصحابي عبدالله بن سويد الحارثي رضي الله عنه(15).

ومن أهم الأحداث التي ارتبطت بميناء الجار ما حدث في العام (18هـ) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مجاعة شديدة وسمي ذلك العام عام الرمادة، وكانت الريح تسفي تراباً كالرمادة، وقد اشتد الجوع بالناس، وضرب الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أروع الأمثلة في الإيثار وأقسم أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس، وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم؟ رضي الله عنه وأرضاه فلقد أتعب من أتى بعده إلى يوم القيامة .!‍ وكتب إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فحمل الطعام من الشام ومصر(16) ، ومن ذلك ما كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر أن يبعث إليهم الطعام على الإبل، وفي البحر حتى يصل به إلى ساحل الجار، فحمل الطعام إلى القلزم في عشرين مركباً (ثلاثة آلاف إردب) حتى وافى الجار، ولما علم عمر رضي الله عنه قدم إلى الجار ومعه عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر السفن ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبني قصرين وجعل ذلك الطعام فيهما، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم وأمره أن يكتب لهم صكاكاً من قراطيس ثم يختم أسافلها(17).

من ذلك نلاحظ مساهمة ميناء "الجار" في نقل البضائع والسلع من مصر إلى المدينة، كما ذكرت بعض المراجع أن الخليفة عمر بن الخطاب وافق عمرو بن العاص على حفر قناة تراجان لتربط النيل بالبحر الأحمر منطلقاً إلى الشمال من حصن بابليون بقليل حتى يمر بعين شمس ثم وادي الطميلات إلى موضع القنطرة حتى يتصل بالبحر الأحمر عند مدينة القلزم، وساهمت تلك القناة التي سميت بخليج أمير المؤمنين في نقل المؤن من مصر إلى القلزم ومنه إلى الجار ميناء المدينة(18).

كذلك ساهم ميناء الجار في نقل كسوة الكعبة المشرفة ، وفيما يلي نص هام للرحالة الفارسي ناصر خسرو(19) عن طريق الكسوة، وكان ذلك عام 439هـ في خلافة المستنصر العبيدي (427ـ487هـ): (وقد أرسلت الكسوة عن طريق بحر القلزم، وقد رافقت الكسوة وذهبت إلى مكة. غادرت القافلة المكلفة بإيصال الكسوة من مصر في غرة شهر ذي القعدة، وكنت مع القافلة. وصلنا إلى بحر القلزم، وركبنا الباخرة وبعد خمسة عشر يوما وصلنا إلى ميناء الجار على ساحل الحجاز ، ومن "الجار" اتجهنا إلى المدينة فوصلنا بعد أربعة أيام).

يتضح من ذلك النص طريق رحلة الكسوة البحري من مصر، إضافة إلى الطريق البري برفقة الحاج المصري ومن رافقه على طريقه، منذ العهد العبيدي حتى نهاية العصر المملوكي، مع بعض التعديلات من الجار إلى ينبع في العهد الأيوبي.

عوامل اندثار مدينة الجار :

عاشت الجار في عهود ساد فيها الأمن وتوفرت فيها الخيرات التي تجلب للحجاز من مختلف الأقطار، وطوال تلك الفترة ظلت تعتمد على جيرانها في الطعام والشراب، فكان الطعام يُجلب من مصر والماء من الأدوية المجاورة للجار. لكن مما ساهم مباشرة في انهيار الجار من جملة أسباب أخرى هو اختلال الأمن في منطقة الجار وهجوم بعض القبائل العربية على المنطقة والفتك بها، كما حدث في سنة 230هـ عندما هاجمت قبيلة بنو سُليم الجار فأوقعوا بناس من بني كنانة وباهلة فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وكان على رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي، وكان ذلك في خلافة الواثق بالله العباسي (20).

كذلك قد يعتبر الغزو الصليبي لبعض موانئ الحجاز في القرن السادس الهجري، وعدم قدرة ميناء الجار على صد الهجمات والغارات البحرية مما أدى إلى تفرق وهروب سكان الجار سبباً من الأسباب التي أدت إلى اندثار الجار. إلا أن اتخاذ الأيوبيين لينبع ميناءاً رسمياً للمدينة النبوية في عام 621هـ كان عاملاً مهما في تضاؤل شأن الجار وبالتالي اختفائها كميناء، واستمرت الجار كطريق بري للحِاج للتزود بالماء من بحيرتها أو بركتها إلى القرن العاشر الهجري.

وبما أن ميناء الجار ميناء استيراد فقد أدى عدم وصول السفن من مصر أو غيرها إلى انهيار هذا الميناء. فإن انقطاع وصول السفن مع انعدام خدمة الظهير يؤدي لا محالة إلى زوال أي ميناء، فالموانئ لا يمكن أن تحيا دون تنظيم حركة وصول البضائع والسلع من مراكز الإنتاج وبالتالي انتقالها إلى مواقع استهلاكها. فساهم كل ذلك مجتمعاً في هجرة أهالي الجار وخاصة طبقة التجار مما أدى في نهاية الأمر إلى زوال واندثار مدينة الجار وبقيت أثراً بعد عين وأكواماً من التلال وساحلاً خالياً من الحياة البشرية التى كان يعج بها فسبحان من له البقاء والدوام.

خريطة توضح موقع ميناء الجار على ساحل بحر الحجاز ، من عمل ،حمد الجاسر ، في شمال غرب الجزيرة ، ص193، مع تعديلات لعاتق بن غيث البلادي ، معجم معالم الحجاز ، ج2 ، ص107.


جزء من الهضبة (التلة) التي يُرجح أنها جزء من مدينة الجار الإسلامية ، ويظهر السياج الحديدي والبحر، في شرم البريكة جنوب مدينة وميناء ينبع

التقطت الصورة بتاريخ 28/3/1420هـ.



الهوامش :

(1) ابن منظور: لسان العرب، مادة جور ص.
(2) ياقوت: معجم البلدان، ج2، ص92.
(3) أسماء جبال تهامة: ص9، 10.
(4) البلدان: الملحق بكتاب الأعلاق النفسية لابن رسته، ص313.
(5) المسالك والممالك: ص23.
(6) نزهة المشتاق، ج1، ص144.
(7) ياقوت: معجم البلدان، مادة الجار، ج2، ص92.
(8) الروض المعطار، ص153،
(9) معجم معالم الحجاز، ج2، ص104.
(10) حمد الجاسر: شمال غرب الجزيرة، الطبعة الثانية، 1401ـ1981، دار اليمامة ـ الرياض، ص192.
(11) عبد القدوس الأنصاري (رحلة الجار): مجلة المنهل، جُدة، جماد الأولى 1391، س37، ص468
(12) في شمال غرب الجزيرة، ص167ـ191.
(13) رحلة الجار، مجلة المنهل ،ص471ـ474، (الحجار المنقبية: الحجار البحرية المستخرجة من الشعاب المرجانية وتميل إلى اللون الداكن).
(14) الآثار الإسلامية في شمال غرب المملكة، الكتاب الثاني، الطبعة الأولى 1414هـ/1993م، ص18ـ21.
(15) أبو سعد عبدالكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني: الأنساب، تعليق عبدالله عمر البارودي، الطبعة الأولى، 1419ـ1998، دار الفكر، بيروت، ج2، ص10
وانظر ياقوت: معجم البلدان: مادة الجار، ج2، ص93، والأنصاري "رحلة الجار" ص494، و الجاسر: في شمال غرب الجزيرة، ص208، 209.
(16) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، الطبعة الرابعة، 1403، 1983، دار الكتاب العربي، بيروت، ج2، ص388ـ389.
(17)ابن سعد في الطبقات الكبرى ،ج3، ص311 اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي: تاريخ اليعقوبي ، دار صادر، بيروت، ج2، ص154.
(18) سعاد ماهر: البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية، الطبعة الثانية، دار المجمع العلمي، جُدة، 1399هـ ـ 1979، ص75.
(19) سفرنامة: ترجمة خالد البدلي، الطبعة الأولى، 1403ـ1983، جامعة الملك سعود، ص119.
(20) تاريخ الطبري: المجلد الخامس، الطبعة الثانية 1408، 1988، دار الكتب العلمية، بيروت، ص278، وعزيزة المذكور أحد كبار قادة قبيلة بني ُسليم في زمانه كما يصفه الطبري

الشريف محمد بن حسين الحارثي


المصدر

رابط رائع ذي صلة بالموضوع لأخينا الرائع محمد الذبياني

الحلقة السابعة عشرة من سلسلة "كشف الأستار عن ينبع الآثار" ( ميناء الجار)