وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *
يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ الكريمة‌
أنّ الايّام‌ تُعدّ من‌ الشهود التي‌ تشهد على أعمال‌ الإنسان‌. فالايّام‌، بما فيها من‌ الساعات‌ والدقائق‌ والايّام‌ والليالي‌ والشهور والسنين‌، تشهد على أعمال‌ الإنسان‌. وكذلك‌ الامر بالنسبة‌ للازمنة‌ والامكنة‌ والجبال‌ والبقاع‌ التي‌ تعدّ من‌ الشهود على الإنسان‌.
وما يهمني في حواري هذا هو أن أتحدث عن التاريخ وللتاريخ أيضا.
فالتاريخ مستودع للأحداث والتجارب الإنسانية . وعلم التاريخ
هو دراســــــة الماضي وتحليل وقائعه لبناء تصورات تصل الماضي بالحاضر وتتيح عملا وتطلعا نحو مستقبل أفضل .
فالتاريخ بمعناه الواسع ، هو قصة الإنسان في الكون ، وتفاعله مع الطبيعة على مر الزمان ، وهو في هذا يشبه نهراً يتدفق من المنبع إلى المصب .ه
فتاريخ المدن والاشخاص ليست حكاية تروى فقط وانما اعادة قراءة لضرورة الحياة أيضا.ً
ومن هنا يبدو السؤال المطروح سؤالاً ذا مشروعية وطنية :
هل هناك ضرورة لإعادة قراءة تاريخنا ؟
وسأحاول في الصفحات والسطور التالية أن أبين الأسباب التي دعتني لأكتب مثل هذا الموضوع وارتباطه بموطني ينبع ) ذلك الإنسان والزمان والمكان.
والحديث عن ينبع وعن تاريخ ينبع حديث ذو شجون ولكن
هل نعتبره قصة تحكي لنا عن الماضي المجيد على نحو يدغدغ فينا مشاعر الزهو بما فعله اباءنا وأجدادنا،
ام نكتفي بقراءة هذا التاريخ من منطلق نفسي تعويضي يقول : (نحن كنا) في زمن نكاد نعجز فيه عن (أن نكون) ؟
[poem=font="Simplified Arabic,6,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
سَيُردِّدُ التَّاريخُ إنَّا أُمَّةٌ= كُنَّا وَ خَيرَ النَّاسِ سَوفَ نَكُونُ [/poem]


لكي‌ لا نبتعد كثيراً، ولتقريب‌ هذا المطلب‌ إلى الاذهان‌،
في مقالتي هذه اجد انني لست الأجدر بمن يتحدث عن تاريخ ينبع وقد سبقني في الحديث عنه ادباء وكتاب افاضل اثروا علينا بمقالاتهم وكتبهم. وما سأكتبه هنا هو نبع من فيضهم تحركت فيه الشجون نحو ماضي ينبع
فقلت في نفسي إجلس‌ الآن‌ في‌ هذا المكان‌ وتحدث‌، عن ينبع الإنسان وتتطرق بإختصار عن رموز واعلام لأن الحديث عنهم لايكفي في صفحات متتعددة ثم انني لست بالمؤرخ او من يجيد فن سرد القصص والحكايات وانما هي محاولات (قد اجرب نفسي هل استطيع الكتابة واعرف كيف الخص المقالات )
دعونا عن هذا الان ونرجع لمضوعنا في التحدث عن ايام زمان وينبع الإنسان وكيف كان في الماضي والى أي درجة وصل في العلم والارتقاء.
فإن كانت ينبع الآن هي التي أنجبت الوزراء والسفراء والأدباء والأطباء، وصحيح نحن أبناء ينبع الآن نفتخر أن من بيننا من هو الآن وزير أو سفير أو عضوا في مجلس الشورى أو ضابطا برتبة فريق أو لواء.
أيضا ينبع في الماضي هي التي أنجبت العلماء والحكماء والأدباء
ولا ننسى تلك القصة التي دارت بين المغفور له الملك عبدالعزيز والقاضي الشيخ (حامد بن سليمان القباني ) الذي منحه تفرداً بان أحكامه لا ترفع إلى هيئة التمييز لما رأي منه غزارة في العلم وحسن بصيرة.
(انظر كتاب ملامح من تاريخ ينبع – لصالح السيد ص 301)
وما أجمل الكسرة التي قيلت فيه يوم وفاته
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
راح الذي كان نقدى به = يا أصحابنا في أمور الدين
يعلم الناس بكتابـــه=ويظهر الحق للغاويــن
كانت بلدنا على حسابه= لا تعوز قاضي ولا مفتين
واليوم من بعد مغيابه = تبكي عليه السنه وسنيـن[/poem]
وتلك هي ينبع التي اشتهر من أبنائها في مهن متعددة وكانوا حرفين بمعنى الكلمة فكثيراً ما تسمع من كان بارعاً في مهنة الحدادة ومهنة النجارة وصنع الرواشين ومنهم من برع في مهنة صناعة السفن الشراعية ومنهم من برع في البناء والتعمير.
وكان من أبنائها من برع في مهنة تدرس الآن في الجامعات والكليات من ذلك اذكر:ذالك الرجل الكريم والذي كان يعمل بميناء ينبع مرشدا بحريا وكيف كان يرسو بالسفن في امن وسلام وعندما احيل للتقاعد حل محله خبيرا اجنبي يحمل اعلى الشهادات في علوم البحار.
وللنساء في ينبع قديما لهم نصيب ويجب على التاريخ ان يذكرهم فمنهم من اشتهر في علوم الطب وعلاج الأمراض وفي فنون التوليد وأمراض النساء
وهناك قصة سمعتها من جدتي عن إحدى قريباتها وكانت تشتهرفي علاج اكثر الأمراض تقول الجدة بان رجلا من اشهر عائلات ينبع قد رحل الى المنطقة الشرقية وقد اصيب بمرض في اذنه وعجزوا الاطباء هناك عن علاجه فأوصوا له اقربائه بالعودة الى ينبع كي تعالجه الحكيمة (سعود) وكانت تلقب ب (سعود قضية ) ( وهي من اسرة القاضي وقريبة الشاعر احمد عطا ) وفعلا تم شفائه على يد هذه السيدة الحكيمة.
وفي مجال التعليم نجد للمرأة الينبعاوية تاريخا في وجود تعليم البنات يوم ان كان لتعليم البنات عملا مستحيلا ، ذلك ماقامت به السيدة الفاضلة وهي من اسرة اَل الطحلاوي وتدعى (ابلة بيضة ) في إنشاء اول قصل دراسي للبنات في منزلها وكان ذلك في منتصف الستينيات هجرية أي قبل عشرون سنة من انشاء اول مدرسة للبنات في ينبع . ( انظر كتاب مسيرة التعليم في ينبع للأستاذ عواد الصبحي ص 468 )
الم اقل لكم الحديث عن ينبع وعن تاريخ ينبع حديث ذو شجون
ولكن يحلو عليه العزف كلما باعدتنا الأيام وابتعدنا عن أرضها وهوائها فالشوق لها يحرك الأشجان ولا يعرف مدى غلاوة العزف على أوتارها إلا من ابتعد عنها
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فلا يعرف الشوق إلا من يكابده =ولا الصبابة إلا من يعانيها. [/poem]
بل نلاحظ أن أجمل ما قيل شعرا عن ينبع هو ما كان بسبب الفراق ولوعة الأشواق ومن منا لا يعرف تلك القصيدة للشاعرحسن عبدالرحيم القفطي الذي استوطن ينبع ثم رحل عنها فهاجت ذكرياته لهذه المدينة فكانت تلك القصيدة والتي مطلعها
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
امن تذكر اكل الحوت بالرطب =اعرضت عن لذة العناب والعنب[/poem]
الى ان يقول
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
من ذا يلوم على شوقي إلى بلد = العيش في غيره للقلب لم يطب[/poem]
والحقيقة ان هذه القصيدة تعد مرجعا تاريخيا لأسماء حارات ينبع القديمة واسواقها.
(انظر كتاب شاعر من ينبع للأستاذ عبدالكريم الخطيب ص 13 )
والشوق لينبع ليس لمن هو من ابناء ينبع اومن عاش فيها بل كثيرا ما نجد ان كل من حل فيها ثم انتهت إقامته فيها ويريد العودة الى موطنه او ديرته يصعب عليه فراقها ويفضل البقاء فيها عن الرحيل عنها، وفي ذلك يقول الشاعر:
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وفي ينبع كان المقام فحبذا = ديار لعمري لا احب سواها[/poem]
والحديث عن ينبع هو حديث عن الينبعين ببحرها وبنخلها وعندما نذكر كلمة ينبع فالمقصود بها ينبع البحر وينبع النخل وكلاهما عينان في الراس
وكما قال الشاعر:
[poem=font="Simplified Arabic,6,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فينبع بحرهم نفع البرايا = وينبع نخلهم مثوى العقول[/poem]
وينبع النخل هي المصيف التي كان يكثر الترحال لها في فترة الصيف لوفرة مائها ونقاء هوائها ووفرة المنتوجات الزراعية فيها
كما ان الكثير من العائلات من الينبعين تربطهم صلة القرابة والرحم بينهم
[poem=font="Simplified Arabic,5,blue,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
إن افتخر بديرتي افخر بثنتين = ابوي جاره البحر وأمي من خيف حسين[/poem]
ولقد اشتهر كثير من رجالات ينبع النخل في علاج الأمراض وفي تجبير الكسور، من بين هؤلاء الذين كنت اسمع عنهم هما ( الشيخ ابو حطب والشيخ ابو العسل)
على ذكر ابو العسل تذكرت الان شيئا وحدثا مهما في حياتي تذكرت ذلك المدرس الذي اول من علمني فنون القراءة والكتابة والأدب إنه الأستاذ (سالم مسعود ابو العسل) فكم كان استاذا فاضلا وتربويا بمعنى الكلمة ... (فله مني كل حب وتقدير ولا ادري ان كان هو حي يرزق فله الدعاء بالصحة والعافية وإما فالدعاء له بالرحمة والمغفرة )
هذه هي ينبع وهؤلاء هم رجالها ونحن مازلنا ابنائها فهل التقى الماضي بالحاضر ؟ والى اي بعد يلتقي الطرفان ؟ام شتان مابين الإثنان؟
اليس لنا الحق بأن نتغني بالماضي ونعزف على اوتاره شجنا كي يزيدنا قوة وصلابة ويحفظ هويتنا ويعزز ذاتنا.
ولا عجبا إن رأينا اليوم من المحدثين من الكتاب او القراء من ينتقدنا أو يعيبنا بالرجعية إذا تغنينا وعزفنا طربا على اوتار الماضي.
ولكن نقول لهم أن ربط الحداثة بالتخلي عن التاريخ والقيم والذات، لهو مرض فكري فيروسي يزيد من عمق أزمتنا ويظلم ذاتنا.


( إن أطلقت رصاصك على الماضي *** فإن المستقبل سوف يغتالك )
...................................
ينبع اليوم