بقلم مصطفى بكري 000عضو مجلس الشعب المصري وعضو لجنة النقل والمواصلات في المجلس والمكلف بالتحقيق في القضيه :
الساعات الحاسمة قبل الغرق!

تحركت الباخرة 'السلام 98' من ميناء ضبا السعودي في حوالي الثامنة من مساء الخميس قبل الماضي، كانت الباخرة مزدحمة للغاية، ذهب كل الركاب إلي أماكنهم المحددة، قبيل العاشرة بقليل كان هناك انبعاث للدخان من أسفل الباخرة وتحديدا في منطقة المواتير. تساءل بعض الركاب منزعجين، فقيل لهم: لا تقلقوا سنطفئها بعد قليل.

كانت خراطيم المياه قد بدأت في إلقاء كميات كبيرة من المياه بهدف إطفاء النيران بعد أن عجزت أنابيب الإطفاء البالية عن القيام بدورها، في هذا الوقت أجري قبطان السفينة 'صلاح عمر' اتصالا بإدارة الشركة يبلغها فيه باندلاع الحريق، اقترح أن يعود مرة أخري إلي ميناء 'ضبا' فالمسافة قليلة قياسا بالمسافة بين موقع السفينة وميناء سفاجا

جاء الرد من الشركة بالرفض، وكانت المبررات أن ذلك قد يتخذ كأداه ضد الشركه خصوصا أن باخرة أخري هي 'السلام 95' كانت قد غرقت في قناة السويس في 17 أكتوبر الماضي .

حاول القبطان إقناع إدارة الشركة بالعودة، قال: إنه يشعر بالخطر وأن النار قد تمتد، وأن الرياح عاتية، إلا أن صاحب الباخرة كانت له كلمته الواضحة وإلا فسوف تعزل.

ذهب وفد من الركاب قابلوا القبطان، طالبوه بالعودة مرة أخري إلي ضبا كانت كلماته واضحة: 'أنا أدري بالباخرة ولن أعود'!! ظل الوضع هكذا لفترة من الوقت، أصر القبطان علي المضي باتجاه ميناء سفاجا، بعد نصف ساعة اشتعلت النار مرة أخري، بدأت عمليات الإطفاء بخراطيم المياه من جديد .

كانت كل المؤشرات تقول: إن هناك شررا تطاير من المولد الكهربائي الخاص بالعبارة أو من سيارات النقل الثقيل التي تحتوي علي وحدات تبريد تعمل بالسولار وكان الحريق في هذه المرة أكثر اشتعالا وأشد قسوة، وكان يفترض علي القبطان أن يعود دون انتظار للأوامر.. لكنه اتصل مرة أخري وأبلغهم بخطورة الموقف، لكن أصحاب الشركة قالوا له عليك بخراطيم المياه.

تراكمت المياه في الجراح ولم تتمكن بالوعات التصريف من القيام بدورها فقد انسدت هي الأخري وبدأت السفينة تميل من 8 درجات إلي 12 درجة ثم إلي 20 درجة ووصل بذلك إلي مرحلة الخطر الكبير. كانت السفينة في حالة يرثي لها، إنها سفينة بالية، لا تصلح للسفر في هذه المناطق، كانت سفينة لنقل البضائع، لكنها تحولت بقدرة قادر إلي سفينة تنقل آلاف البشر .

كانت الباخرة 'السلام 98' واحدة من خمس عبارات تم تجديدها بإيطاليا عام 91، أضيفت لها أدوار عديدة ولم تحصل علي ترخيص للملاحة إلا بعد شرائها، فراحت تعمل علي خط سفاجا * ضبا ليل نهار.. وأيضا علي خطوط أخري في موانئ شرق البحر المتوسط. ولأن صاحب السفينة 'نهم' فقد ألغي الجراج العلوي المخصص للسيارات وقام ببناء كبائن درجة ثانية بطريقة غير مطابقة للمواصفات .

والغريب أنه عندما احتاج إلي وجود غرفة مولدات إضافية، قام ببنائها أسفل هذه الكبائن وتلك هي المصيبة.. ومع ذلك حصل علي التصريح اللازم.

لقد حدث لهذه السفينة حريق في نفس المكان وبجوار غرفة المولدات المنشأة، وكان بالعبارة يومها ما يزيد علي 2800 راكب من حجاج ومتخلفي عمرة رمضان، وقد تم إطفاء الحريق والسيطرة عليه بعد 4 ساعات

إن المصيبة أن راكب الكبائن والبولمان في هذه السفينة لا يمكنه الخروج إلي السطح والعكس كما يقول ضابط بحري كبير صحيح فراكب السطح لا يستطيع أن يدخل الكبائن، ولذلك يحدث الارتباك الشديد في حال وقوع الكوارث، كما حدث خلال الكارثة المفجعة الأخيرة

وهناك أيضا قضية تغيير الأطقم المستمرة من سفينة إلي أخري، فما دام الفرد يعمل بنفس الشركة الأمر لا يهم، وبالتالي لا يكون هناك وقت للمناورات بالبحر ولا لإعطاء إرشادات للركاب بحجة أنهم نوعيات من البسطاء لا تستوعب ما قد يحدث، وعلي العكس من ذلك يتم عمل هذه المناورات في البحر المتوسط في حال سفر العبارات هناك.. ومن ثم يكون أفراد الطاقم من ضباط وبحارة ومهندسين وميكانيكيين هم فقط الذين يسمح لهم بالسفر في المتوسط، علي العكس من ذلك البحر الأحمر حيث تجري الاستعانة بأفراد المطاعم والكافيتريات وشخصيات لا تمتلك الخبرة الكافية يدفع لهم صاحب الشركة مبالغ مالية ضعيفة للغاية وليس لهم حقوق مادية أو أدبية عند الإصابة أو غيرها .

وهذه السفينة التي يبلغ عمرها أكثر من 35 عاما وتم شراؤها بمبلغ لا يزيد علي 2 مليون جنيه تحمل علم بنما حتي تستطيع الهروب من كافة إجراءات الأمن والسلامة ودفع الضرائب وحقوق الأطقم كل ذلك مقابل مبالغ مالية يدفعها الملاك لهذه الدولة .

إن أي سفينة تبحر في العالم لابد أن تكون تابعة لهيئة إشراف وعددها 11 هيئة منها خمس تسمي 'بالخمسة العظماء' وأبرزها هيئة اللويدز 'بريطانية' وهيئة D. N. V 'نرويجية' وجير مينش لويدز 'ألمانية' أما هيئة 'رينا الإيطالية' والتي أعطت الباخرة 'السلام 98' الترخيص فهي من أضعف هيئات الإشراف في العالم.. بل هي التي أعطت شهادة سلامة لناقلة البترول المالطية 'أريكا' والتي انشقت إلي نصفين قبل ست سنوات وتسببت في مد بحري أسود من البترول. وليس صدفة أن شركة 'لويدز ريجستر' المتخصصة في الملاحة البحرية قد أكدت في بيان لها أن السفينة 'السلام 98' في خريف عمرها ولا تستوفي معايير السلامة المطبقة في الاتحاد الأوربي مما جعلها ممنوعة من الملاحة في المياه الأوربية .

كان طبيعيا والحال كذلك أن يحدث خلل في اتزان السفينة بعد إغراقها بكميات هائلة من المياه، ذلك أن السفينة يفترض أن تسلك طريقها باتزان معين، وهنا نجد أنفسنا أمام ثلاثة احتمالات أساسية للغرق وفقا لوصف خبير بحري كبير: * الأول: أن تكون السفينة ونتيجة تكدس المياه في أحد أجنابها قد مالت وقام الربان بالدوران في اتجاه عكس اتجاه الميل، أو دفع بالركاب كما قيل إلي الانتقال من جانب إلي جانب لإحداث التوازن، إلا أن ذلك سبب الانقلاب المفاجئ.

* الثاني: أو أن تكون السفينة قد وصلت إلي ما يعرف بالاتزان الحرج، وهو أخطر حالات الاتزان، وفي هذه الحالة لا يكون للسفينة أي ذراع استعدال.

* الثالث: أن تكون الأوزان قد زادت، وعندما تزيد الأوزان يفقد الطفو الاحتياطي المصممة عليه المركب بسبب زيادة الأوزان.

ووفقا لروايات الشهود والمحللين يبدو أن السبب الأول كان هو وراء غرق السفينة في مدة زمنية لم تزد علي 15 دقيقة.

لقد أعطي طول عمر السفينة وتهالكها الفرصة لإحداث بعض الثقوب نتيجة الانفجارات لتدخل منها المياه الغزيرة إلي داخل السفينة وبالرغم من أن كل المؤشرات كانت تنذر بالخطر إلا أن إجراءات الأمان لم تتحقق، ومعظم الرماثات لم تفتح، وذلك بسبب أن محطته التي يمتلكها في السويس هي التي تقوم بعمل الصيانة لهذه الرماثات.

لقد ذكر أنه كان هناك 88 رماثا يستوعب الواحد منها حوالي 20 فردا ولكن يبدو أن المواصفات الفنية للرماثات لم تكن متوافرة، ومن ثم فالاحتمال الأرجح هو أن يكون الرماث منتهي الصلاحية فتكون الزجاجة التي تحتوي علي غاز مضغوط مسربة للغاز الموجود بها، فلا يتم فتح الرماث ويؤدي إلي الغرق وهذا ما حدث .

هناك نقطة أخري تكشف عن حجم الأخطاء التي ارتكبت * لقد أطفأوا الحريق الناتج عن تسرب الوقود بالجراج بواسطة مياه البحر وهذا خطأ جسيم يدل علي عدم وجود مناورات وتدريبات للتعامل مع الحريق، فالوقود أخف من الماء، وعند إطفاء الوقود المشتعل بالماء يطفو الوقود المشتعل علي سطح الماء ويؤدي بفعل الكميات الكبيرة من المياه إلي نشر الحريق وهذا هو ما حدث وكان من الممكن الإطفاء بالرغوة أو البدورة ولكن ذلك لم يحدث لأنه وببساطة لم تكن هذه المواد متواجدة أساسا.

لماذا تأخرت عملية الانقاذ؟!

بعد أن ابلغ القبطان صلاح جمعة قائد سانت كاترين ادارة الشركة وتحديدا نائب رئيس مجلس الادارة عمرو ممدوح إسماعيل بواقعة غرق السفينة 'السلام 98' في حوالي السابعة صباحا.. قام عمرو بالاتصال باللواء محفوظ طه رئيس هيئة مواني البحر الأحمر وابلغه باختفاء الباخرة 'السلام 98' ولم يقل انها غرقت رغم علمه بذلك.

ساعتها طلب اللواء محفوظ طه من عمرو ممدوح إسماعيل أن يصدر قرارا بارسال عدد 2 لنش تمتلكهما الشركة سرعتهما '30 عقدة' للبحث عن السفينة، خاصة أن هذين اللنشين اسرع من أي وحدة بحرية أخري، وقد وعد عمرو بتنفيذ ذلك

في هذا الوقت قام اللواء محفوظ طه بالاتصال بميناء سفاجا ليستفسر عن الأمر، ثم بدأ يجري اتصالا بميناء ضبا، وفي السابعة وعشر دقائق اتصل بقائد القوات البحرية المنوب وابلغه باختفاء الباخرة واحتمال طلب النجدة للانقاذ، في السابعة والثلث كان هناك نص اشارة جري اعداده للابلاغ ويقول النص 'غادرت العبارة السلام 98 ميناء ضبا سعت 2000 يوم 2/2/2006 وننتظر وصولها سعت 300 يوم 3/2، لم يتم تحقيق اتصال حتي الآن تطلب شركة السلام تنفيذ بحث علي نفقة الشركة تتعهد هيئة المواني بدفع أي تكلفة'.

تم اعداد الاشارة ولكن لم يتم ارسالها في هذا الوقت تحديدا، انتظارا لمعرفة الرد النهائي من الشركة التي ظلت تتكتم علي غرق السفينة التي قطعت معها الاتصالات نهائيا في تمام الواحدة صباحا. وفي السابعة و45 دقيقة صباح الجمعة، قام عمرو ممدوح إسماعيل باجراء اتصال آخر باللواء محفوظ طه رئيس هيئة المواني وابلغه أن الباخرة 'السلام 98' قد غرقت، وقال إنه تأكد من هذه المعلومة من خلال قائد السفينة سانت كاترين والذي ابلغه بهذه المعلومة في السابعة صباحا.

في السابعة و47 دقيقة كانت هيئة مواني البحر الأحمر قد تلقت التعليمات من رئيس الهيئة بارسال الاشارة المعدة فورا إلي القوات البحرية وإلي هيئة البحث والانقاذ. شعر محفوظ طه بخطورة الموقف، انتقل علي الفور من السويس إلي ميناء سفاجا أجري اتصالا جديدا بعمرو ممدوح إسماعيل، سأله هل ارسلت اللنشين للمساعدة في انقاذ الركاب؟ تعلل عمرو إسماعيل في هذا الوقت بأن اللنشين ينتظران التموين، وبعد ذلك اتضح أنه رفض ارسالهما لانقاذ الركاب. كان الوقت يمر بطيئا وكان الناس يموتون غرقا في عرض البحر، ومن نجا منهم كان ينتظر الانقاذ وسط أمواج عاتية، كانت الثواني محسوبة، وفي كل دقيقة كان هناك من يموت بعد أن يفقد قدرته علي التواصل والاستمرار، بينما كان ممدوح إسماعيل ونجله يتعاملان مع الكارثة بقلب بارد.

بعد قليل من ابلاغ القوات البحرية بما جري، صدرت التعليمات بالاسراع بعملية الانقاذ، ووفقا للتقديرات فإن استعداد الوحدات البحرية للانقاذ يستلزم نحو ساعة تقريبا، والخروج من الرصيف حتي البانوراما خارج الممر الملاحي يستلزم 45 دقيقة، أما المسافة من البانوراما وحتي موقع السفينة حوالي 70 ميلا تقطعها المدمرة في نحو 5 ساعات حتي تتمكن من الوصول .

في البداية ذهبت القوات إلي الموقع المحدد ثم اتضح انه ليس هو المقصود، فاضطرت إلي البحث في الموقع الآخر وقضت حوالي ساعة ونصف إلي ان وصلت إلي هناك، أي أنها من الناحية العملية أمضت ست ساعات ونصف الساعة منذ صدور الأوامر إليها حتي وصلت إلي المكان المحدد لتمارس مهمتها في الانفاذ. كان ضحايا العبارة من الناجين والغرقي قد تبعثروا علي مسافات طويلة في هذا الوقت وكان علي سفن الانقاذ ان تبحث بسرعة (25 عقدة) وليس أكثر والا فلن يتمكنوا من رؤية أي من الناجين أو الغرقي، وهكذا بدأت المهمة التي لا تزال مستمرة حتي الآن والتي اسفرت فقط عن نجاة 388 راكبا بينما أصبح الآخرون جميعا في عداد الشهداء .