أبناؤنا.. آباؤنا
صالح الشهوان
كان الشاعر الراحل إبراهيم طوقان معلماً لمادة القواعد يجهد نفسه ليعلم طلابه الإعراب لكنه لقي منهم ما أطار صوابه فقال:
«فأرى حمارا بعد ذلك كله
رفع المضاف إليه والمفعولا!!»
ومعروف أن (المضاف إليه) مجرور و(المفعول به) منصوب.. وحدثني صديق أنه كان يشرح بالصور لطلبته مادة العلوم، الفرق بين الطيور والحيوانات وبعد أن بح حلقه، سألهم: (فاهمين؟!). زعقوا: (نعم.. يا.. أ.. س.. ت.. ا.. ذ) وعندها سأل: (من يعطيني مثالاً على الطيور؟) رفع أحدهم إصبعاً كاد يخطف بها عين المعلم: (أنا.. أنا..) بادر متلهفاً: (تفضل يا ابني) صاح الطالب: (الفارة يا أستاذ) وبين كظم الغيظ والضحك تمتم المعلم: (الفارة والله أنت!!).
ذاك زمن ذهب مع ذهنية طالب الأمس المسكون بريفيته وعفويته، أما طالب اليوم فلم يعد ذلك البسيط الذي يشكل له والده ومعلمه مصدري المعرفة فقد تحول أبناؤنا إلى آباء ومعلمين يمتلكون من المعارف وسبل الوصول إليها بحكم وسائل الاتصال والتقنية، ما بات يشكل تحدياً لنا معشر الكبار.. يقول صاحبي، وهو متخصص في تقنية المعلومات وأستاذ أكاديمي: إن ابنه لاحظ حيرته أمام جهاز الكمبيوتر، فسأله عن المشكلة، وحين أوضح له، تقدم الصغير، وبلمسة خاطفة من أصابعه الناحلة وضع أمامه ما كان يبحث عنه!!
إننا أمام أجيال طالعة لم نعد نملك أن نضبط إيقاعهم على مداركنا وأساليبنا، ولا أن نحول بينهم وبين الوصول إلى الممنوع والتابو.. فإذا كان المجتهدون منا يتعلمون كيفية التعامل مع وسائل تقنية الاتصال فإنها في أبنائنا صارت بنية ذهنية ونسقا في جهازهم الحسي.. بعضنا جرب سؤال ابنه أو ابنته عن حل معضلة في جواله مثلاً، ثم لم يلبث أن واجه هزيمة جهله في برهة!!
إنه العصر الذكي داهم معزوفتنا البالية عن عصر السرعة، وهو وضع يربكنا لأننا نبدو أمام أطفالنا "أميين" لكنه، مع ذلك إرباك جميل يضعنا لأول مرة في التاريخ في شراكة أممية بشأن المستقبل مع العالم.. مستقبل لا قبل لأي قراءات تنبوئية بمعرفة كنهه أو ملامحه وإن كانت معالم أشباحه بادية في أفلام الخيال العلمي!!
ماذا نفعل إذاً.. وقد صار أبناؤنا آباءنا؟ لا أشير إلى الأبوة البيولوجية، إنما حيرتنا وقد أصبحنا معهم فاقدي الحيلة وقد صار امتدادهم الافتراضي حقيقة فاقعة غير قابلة للسيطرة عليها أو التحكم فيها، لا أسرياً، ولا في إطار منهجنا التربوي، ولا في نطاق ثقافتنا الاجتماعية السائدة، حيث السيد "جوجل" وغيره من محركات البحث وأشكال التواصل الاجتماعي "كمشت" مساحة العالم في جهاز بحجم علبة الكبريت واختزلت الدهور في ثانية ومعها تآكلت فعلاً قيمنا وأعرافنا وتقاليدنا والتبست معايير العيب والسمت والمهابة واللياقات الاجتماعية في زخم سطوة قطيعة معرفية لم نكن نحن من بلور محتواها ولا أبدع منهجها وفرضهما!!
المجازفة في اقتراف وصاية من نوع: (يجب والمفترض ولا بد... إلخ!!) ليس سوى مجرد ارتهان لمنهج كان.. وقد كف عن أن يكون، فمعارفنا ورؤانا وأدواتنا قد فقدت صلاحيتها ولم تعد من بضاعة هذا العصر، والاعتصام بها غطس في بحر الحنين ليس إلا.. فهي مهما كانت عزيزة علينا فإنها ليست كذلك في زمن فرض علينا النزال بأدواته وغافلنا وجند أبناءنا فرساناً مغاوير في ساحته.. وليس أمامنا من خيار سوى أن نستمد من جسارتهم العقلية جسارة الثقة بهم ونلبي لهم عدة هذه المعركة وعتادها من مخازن حداثة الخبرة الإنسانية الفائقة.. قال جبران: (أولادكم ليسوا لكم ، أولادكم أبناء الحياة.. والحياة لا تقيم في منازل الأمس!!) أما كيف؟ فهذه مهمة علماء التربية والاجتماع المنحازين كلية للعصر والمستقبل.. دون لكن..!
المفضلات