عزمي بشارة الحياة - 12/01/06//
انضم عرض الفصل الأخير من حياة شارون، ومهرجان نزيفه الدماغي الإعلامي إلى علامة من علامات، ومحطة من محطات، تقدم التلفزة المجيدة على طريق تطور «التغطية» التلفزيونية الظافرة في عصرنا نحو شمولية الإعلام وتوتاليتاريته، إلى جانب مهرجانات أخرى شهدها العقد الأخير. وقد بزّت هذه «التغطية» الأخيرة تغطيات أخرى، ليس بطولها واتساعها فحسب، بل أيضاً بأنها تغطية حرفياً، أي أنها بدل أن تكشف سياسة وسيرة هذا السياسي قامت بتغطيتها.
تعامل الإعلام الإسرائيلي مع مرض شارون بمنهج الأستوديو المفتوح الذي يجلس فيه مع مقدم البرنامج المناوب صحافيون وسياسيون وخبراء يغطون بالثرثرة المدة الواقعة بين تقرير وتقرير من أمام المستشفى تتلوها مقابلات من دول أخرى وبعض التلخيصات الوثائقية السريعة التي أعدّت على عجل بانتظار تقارير أكثر مهنية. وعندما طلب احد الصحافيين مقابلتي مؤخراً قال أنه مسؤول عن إعداد فيلم سيبث في حالة الوفاة. أي أن لديهم ما يكفي من الوقت حالياً لإعداد برامج لحال الوفاة، إذ لن يكون موتاً مفاجئاً. وتميزت مرحلة التغطية الإسرائيلية الطويلة لمرض شارون بطولها أولاً، وبأن الخبراء هم هذه المرة عبارة عن أطباء مختصين في طب وجراحة الأعصاب.
يحسب المرء أن الجراحين وأطباء الأعصاب يقلون الظهور في الإعلام، لذلك صعق العديد عندما شاهدوهم ساعة ضعفهم التي لا بد أنهم يخجلون منها الآن. لقد وصلتهم حمى الكاميرا. ولم يبق في إسرائيل طبيب أعصاب واحد إلا وظهر في التلفزيون كمعلق ومفسر على تدهور صحة شارون، وماذا فعل الأطباء وماذا سيفعلون بتقديرهم. وتسابقت المحطات للاحتفاظ بأشهر جراح ممكن في الأستوديو بشكل ثابت ولأطول ساعات ممكنة، من دون نوم. ولا شك أن الجراحين يبزّون الصحافيين في الجلد والقدرة على تحمل قلة النوم. وبلغ الحضيض عندما أحضر أحدهم إلى الأستوديو مجسم لدماغ يساعده في شرح تطور الحال.
في المرحة الثانية من التغطية انتقد المعلقون الصحافيون الأطباء الذين أكثروا من التشخيص والتحليل من دون معرفة للحالة. واستمر النقد على المعلقين الخبراء والجراحين مدة يومين. ثم بدأت المرحلة الثالثة بتجنب الأساتذة والجراحين إبداء رأي في حالة المريض شارون، واكتفوا بمقولات عامة حول حالات شبيهة تبدأ بجمل شرطية وتنتهي بحذر شديد برفض التعليق عينياً على حالة شارون. ثم بدأت مرحلة عتاب بين الخبراء والصحفيين حول ما قاله فلان عن فهم فلان بالطب... الخ.
وبلغ الأمر بالصحافة والتنافس في ما بين أدواتها على معلومة، أو شذرة معلومة، أو أي طرفة من شأنها أن تطرد النعاس من عيون المشاهدين أن وصل الصحافيون إلى والدة أحد الجراحين، ووالداه يهوديان مهاجران من الأرجنتين، لعل ابنها حدثها بأمر ما عن صحة مريضه. واكتشفنا اسم مدينتهما، روساريو، وحجم الجالية اليهودية المؤلفة من سبعة آلاف مواطن فيها. استطرادات عجز عنها حتى الجاحظ.
أما السياسيون فيشاركون بالبرامج في الأستوديو. لكن التقليعة الدارجة بينهم هي كيل المديح لشارون وعدم الرغبة بالتطرق إلى الخلافات معه، ولا إلى مستقبل حزبه، ولا إلى مستقبل الخارطة السياسية من بعده لأن في ذلك تأكيداً بأنه سيموت لا سمح الله، أو لان هذا يعني أنهم سيرثونه وهو حي... الجميع يؤكد أنه يريد «في هذه اللحظات الصعبة» أن يظهر بمظهر فيه من الرسمية أكثر مما فيه من الحزبية، والصحافيون يحاولون ويحاولون استخراج سجال حول الخلافات دون جدوى. التظاهر بالرسمية سيد الموقف، وبعد محاولات عدة يمل الجميع الجمل النمطية حول الوحدة وتمنيات الشفاء.
ويتوقف البث ليعلن أنهم سيحاولون غداً إيقاظ رئيس الحكومة، وكأن الكلام هو عن قبلة الحسناء النائمة. وسرعان ما تخرج أخبار عن أنه حرك يده اليسرى ثم يصدر نفي للخبر مع تأكيد أنها اليمنى. وبعد كل خبر خبير، وبعد كل تفنيد خبر آخر. ويسمع أبناء المريض شارون الذين حوكموا بتهم الفساد وتلقي الرشوة بدلاً عن أبيهم معزوفات لموزارت في غرفته بناء على نصائح الأطباء لأن المؤثرات اللازمة لإيقاظه هي أصوات وروائح ومؤثرات أخرى من الماضي يحبها، لذلك لم افهم لماذا لم يبثوا له تسجيلات دوي المدافع وصراخ الأيتام واستغاثة المغتصبات في صبرا وشاتيلا.
ثم تأتي المفاجأة من القناة التلفزيونية الأولى بخبر يقول أنهم مرروا رغيف شاورما من تحت أنفه مرات عدة! اشتهر عن الرجل حبه المفرط للطعام وعدم قدرته على ضبط نفسه لمشهد المأكولات، كما أكد بنفسه، لكن أن يدخل تاريخ الطب بهذا الشكل أي بمحاولة الإيقاظ من «الكوما» الدماغية بتمرير رغيف الشاورما تحت الأنف، فهذا ما حسبته تركيباً لكاريكاتير ساخر وخبيث. لكن لا، هذه هي الحقيقة. لقد فعلوا ذلك. وربما سيسمونه في المستقبل «فحص الشارونما»، من يدري؟
وفكرت ماذا لو نجحوا في إيقاظه لكن بخلل في الدماغ يجعله ينسى السنوات الأخيرة بما فيها فك الارتباط، ماذا لو خرج للصحافة بعدائيته المعروفة معتقدا أنهم اجتمعوا ليسألوه عن صبرا وشاتيلا وحرب لبنان، أو عن إفشاله مع ديان خطة شاريت للتفاوض مع عبد الناصر عام 1955 بتسخين الحدود بالاستفزازت والمذابح، أو عن مشاركته في انقلاب الجنرالات على إشكول لإجباره على شن الحرب عام 1967، أو لو انتقل إلى تهديد عرفات بالقتل أو رفيق الحريري بقصف بيروت مرة أخرى.
طبعاً، أبدى الساسة في أنحاء العالم كافة قلقهم من تدهور صحة شارون. وانضم العرب إلى هذه العولمة كعادتهم، كمستهلكين تابعين متبارين في إبداء القلق، إذ تابع بعضهم أخبار صحة شارون «بقلق» وبعضهم الآخر بـ «قلق بالغ»، ولم تتوقف «اللقلقلة» عن القلق حتى لحظة كتابة المقال. فشارون قد يتحول إلى نبتة بأعضاء حيوية فاعلة وسبات مستمر، وقد يشل وقد تطول فترة الانتظار ومعها القلق البالغ. فالوقت ليس صديق القلق، وإذا طال الأول فسرعان ما سيحل الزهق مكان القلق.
قد تطول عملية انتظار مصارعة الموت والنزاع الأخير، ولذلك عندما كان يترك الأقارب في بلادنا أشغالهم لينتظروا في المستشفى نتيجة نزاع الموت، أو صحوة بعد سكرات الموت يتبعها موت زؤام، وإذا طالت عملية الانتظار ينشأ نوع من الحرج الذي يميز حياة البشر القصيرة الكثيرة الحرج. فتمني ألا يطول الانتظار يعني تمني الموت للشخص. والانتظار من دون حد يعني تعطيل الأشغال والأعمال من دون جدوى... ولذلك يأخذ الأقارب بالتناصح، كل ينصح الآخر أن يذهب إلى عمله أو دراسته مما سهل عليه فعل الأمر ذاته. ويقولون: «حي ما بينطر حي». لكن الإعلام «ينطر» طبعاً. هذه شغلة الصحافيين المدفوعة الأجر. ويغطي الصحافيون كل نفس يأتي من غرفة المريض وكل حركة يد طالما هناك أوامر من غرفة التحرير حتى تأتي تعليمات أخرى بفك الخيمة والانتقال إلى تغطية أكثر راهنية أو دراماتيكية أو غير ذلك.
وتستمر التغطية أياماً. تفرد دقائق كل ساعتين في كل محطة تلفزة دولية لتقرير «لمراسلنا» الرطب الشعر أو الصلعة من رذاذ المطر أمام هداسا. يقابلون كل من يدخل ويخرج. ثم لا يلبث الصحافيون أن يقابل احدهم الآخر بعد أن ينتبه محررو النشرات الى أن حجم الاهتمام الإعلامي يحتاج بذاته إلى اهتمام إعلامي، فيصبح هو الموضوع. ويقابل كل صحفي زميله متسائلاً لماذا حضر؟ وكيف تتم التغطية في بلده؟ وما هو رد فعل الناس هناك على مرض شارون؟ وكأن أحداً سأل الناس هل يهمهم الموضوع إلى هذه الدرجة. الإعلام يفرض أجندته على الناس، ويقرر للجمهور ماذا يريد أن يعرف. ويتقمص الناس شخصية الجمهور التي فرضت عليهم.
لقد تحول مجرم الحرب شارون، أحد ابرز المغامرين العسكريين ومجرمي الحرب في النصف الثاني من القرن العشرين إلى رجل سلام معتدل، كما تحول الذئب إلى جدة في قصة «ليلى الحمراء» (المسماة طاقية حمراء في الأصل عند الأخوة غريم) بعدما افترس الجدة ولبس لباسها. وفي حين كشفته أنيابه في الأسطورة الطفولية وعاجله الصياد، يعالج الإعلام صورته ويصنع له قناعاً، ويعالج الأطباء صحته. وهم حالياً أعضاء في فريق جراحي واحد في الواقع.
انصاع العرب والأوروبيون لعجزهم ولطلب الأميركيين وتعاملوا مع شارون كرجل سلام رغماً عن أنفه حتى وهو يغتال الفلسطينيين ويبني المستوطنات والجدار العنصري الهمجي. وحين كان يملي شروطاً إسرائيلية من طرف واحد ويفرض إيقاع التحرك السياسي من طرف واحد معلناً للملأ أن غايته هي تجنب تنفيذ خارطة الطريق كان العرب يصرون على أنه ينفذ خارطة الطريق وأنه تغير. وحين تلقى مقابل فك الارتباط في قطاع غزة وعداً أميركياً بتبني وجهة النظر الإسرائيلية وثوابتها في ما يتعلق بالحل الدائم غطى العرب على ذلك قائلين أنه في مقابل هذا الوعد العيني وعدتهم أميركا وعداً عاماً بأن الأمور تحسم في المفاوضات وليس في المراسلات بين بوش وشارون، وكأنها مراسلات حب وغرام غير ملزمة سياسياً لأحد.
وبسرعة فائقة انتقل جميع الساسة التابعين لأميركا في كل ما يتعلق بهذه المنطقة الى ربط مصير «عملية السلام» بصحة شارون والى القلق، والقلق البالغ، وتلقي التقارير المتوالية عن صحة شارون. والإعلام يتلقى أيضاً الأجواء فينفخ فيها لتستعر لهيبا. ومهما اجتهد المرء في إيضاح الصورة لهم، ومهما حاولت أن ترد انه لا عملية سلام ولا يحزنون وان شارون قضى على أي عملية سياسية فإنهم يصرون في السؤال التالي على معرفة ما هو مصير عملية السلام، ويصرون عليك أن تعبر عن قلقك لمصيرها... وهكذا. مصيرك أنت ومصير رأيك محتوم وعليك أن ترى أن شارون قد تغير وانه أصبح رجل سلام، أو جدة ينتظر الجميع بحزن مشوب بالاحترام حول فراش موتها.
وسوف تبدو كمفسد حفلات محترف إذا أصررت على اعتبار شارون مجرم حرب، او إذا ذكّرت بصبرا وشاتيلا ونحالين وقبية، وبرفح ماضياً وحاضراً، وإذا ذكرت بالاغتيالات الحالية. وإذا وقفت عند رأيك أنه لم يصبح رجل سلام بل ان العرب أضحوا رجال استسلام فسوف تبدو خشبياً أمام إعلام البلاستيك.
وتتوافد الى هداسا وفود يهودية جاءت خصيصاً لتقديم القرابين بمعنى ما لـ»اوراكل» هداسا كما لـ»اواركل دلفي» (عرافة او كاهنة معبد دلفي، الوسيط مع الآلهة)، أي الى الوسيط الروحي الحالي بين الشعب اليهودي والأبدية والمصير والقدر، أو سمها ما شئت. وإذا كان الانتظار مملاً ومتعباً بالنسبة الى المريض العادي على فراش الموت، ففي حالة شارون يتمنى حزبه وشعبه أن يطول الانتظار. فحتى لو فكك الإعلام الدولي خيامه وذهب يبقى بقاء شارون على هذه الحال هو بقاء شارون الذي يحبه الناس ويضيئون من اجله الشموع، واذا تم التنافس الانتخابي فسيكون تنافساً في ظل نزاع الاب أو الجدة، وسيتم الاقتراع من خلال التعبير عن العطف والتعاطف والاحتضان و»معرفة أهمية اللحظة»، وتستمر وفود الشتات بالحضور ويتم توحيد الشعب اليهودي حول رمزه الذي تمرر تحت أنفه أرغفة الشاورما مستثيرة حركات لا إرادية من عضلات الوجه... نقطة تعاطف جديدة وبلورة أخرى للهوية اليهودية حول جنرال وشخصية عسكرية مغامرة يمثل في سيرته الزراعة والعسكرة والقتال والشك بالعرب وبنواياهم والاعتماد على القوة العسكرية في السياسة، والوطنية اليهودية، والثوابت التي يتفق عليها الجميع ضد أي سلام عادل، لكنها تبدو الآن لسبب ما وادعة غير مؤذية بل مثيرة للتعاطف.
لا أدري اذا كنا «ما زلنا نتابع بقلق» عند نشر هذا المقال.
* كاتب عربي.
المفضلات