عذراً يا وطني فلم نعتد الاحتفال بك

عذراً يا وطني عندما مُنعنا من التغني بك في مدارسنا، عندما صادر بعض المتشددين ذلك الحق فجعلوا النشيد الوطني محرماً لأن الغناء عندهم محرم، فانصعنا وصمتنا وارتد النشيد الوطني نغماً مخنوقاً في صدورنا .

بالأمس احتفلت بلادنا لأول مرة باليوم الوطني منذ خمسة وسبعين عاما، فتبادل الناس التهاني عبر رسائل الجوال، وزينت السيارات بالأعلام، وعبرت الجموع عن فرحها وعن إعطائها حقها في الاحتفال، بالأمس كنا والوطن في سنة أولى احتفال بدت وكأنها سنة أولى حب، فعذراً يا وطني..

عذراً لأننا لم نعتد الاحتفال بك فاغفر لنا حداثة تجربتنا، عذراً لتقاعسنا كل تلك السنين عن إعطائك حقك وتقصيرنا تجاهك، عذراً يا وطني فقد علمونا أن حبك بدعة والانتماء إليك دون غيرك بدعة، والاحتفال بك بدعة، واستثمر الشعور الديني الراسخ لدى المواطنين لزيادة التنفير من الاحتفال .

كبرنا يا وطني ونحن لا نحسن الإحساس بيومك، لا نحسن الحنين إليه، لانحسن الاستعداد له فقد علمونا كل شيء إلا الاحتفال بك، وعلموا بعضنا كيف يحقد عليك كيف يكرهك كيف يجند الصغار ليعبثوا بأمنك واستقرارك، علموهم كيف يقضّون مضجعك، كيف يفجرون أرضك، كيف يروعون الأبرياء الذين تفيأوا ظلالك، كيف يعيثون فساداً وإجراماً وقتلاً في العالم وهم ينتمون إليك، علموهم أن يحبوا أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك حتى صارت أقرب إلى عقولهم وألصق بقلوبهم منك يا وطني...

عذراً يا وطني يا من أطعمتنا من جوع حين تفجرت أرضك بالخيرات، يا من آمنتنا من خوف حين انتقلت بنا من نمط القبيلة التي تقاتل من أجل البقاء إلى دولة عصرية تنعم بالأمن والاستقرار.

عذراً يا وطني لأننا لم نعتد أن نرى رايتك تخفق فوق مدارسنا فوق بيوتنا فوق متاجرنا فوق سياراتنا، عذراً لأنهم لم يعلمونا أن تكون رايتك مفردة من مفرداتنا وشيئاً من أشيائنا الحميمة، أعجب عندما أرى البيوت خارج وطني تضع أعلام بلدانها فوق سطوحها فأبحث عن رايتك في مخزون ذاكرتي وأين رأيتها آخر مرة خفاقة فتتراءى لي شارة قنواتنا التليفزيونية .

عذراً يا وطني فقد ظهرت طائفة منا دعت إلى الأممية وإلى تنمية الشعور الإسلامي على حساب الشعور الوطني وقدمت الأخوة في الدين على الأخوة في الوطن متجاهلة أن حب الوطن جزء لايتجزأ من الإيمان .

عذراً يا وطني فلقد انتشر بيننا خطاب قام على موقف تمجيدي لرموز التطرف والإرهاب كسيد قطب وعبدالله عزام وابن لادن وترويج كرامات الأفغان، مما حجب الرؤية وأعمى بعض البصائر ووقع كثيرون ضحية للأكاذيب، أما الوطن فلقد توارى في خطابهم وأصبح من يدافع عنه عرضة للهجوم والتشكيك في عقيدته.

عذراً يا وطني فلقد شُغلنا عن فكر التثوير الذي عمل عمله في العقول، فزرع بذور الفرقة بين أبناء الوطن، وألّب بعضهم على بعض وأشعل الفتن وألهانا عن قضايانا الكبرى .

عذراً يا وطني فلقد غضضنا الطرف عن الوافدين العرب المؤدلجين الذين قصدوا بلادنا فارين من أوطانهم فجلبوا معهم الفكر المتطرف الذي فتحنا له أبواب جامعاتنا ومدارسنا فأغرق تعليمنا وأغرقنا معه وفق منهجية واضحة المعالم محددة الأهداف .

عذراً يا وطني فنحن نعيش أزمة في علاقتنا بك لأنه لم يوجد خطاب وطني يصحح العلاقة بيننا، فخطابنا الوطني مأزوم لأن خطابنا الديني مأزوم وخطابنا التربوي أكثر تأزماً وبعض القائمين على ذلك كله لم يشغلهم الوطن بقدر ما شغلوا بقضايا لا علاقة للوطن بها .

عذراً يا وطني عندما مُنعنا من التغني بك في مدارسنا، عندما صادر بعض المتشددين ذلك الحق فجعلوا النشيد الوطني محرماً لأن الغناء عندهم محرم، فانصعنا وصمتنا وارتد النشيد الوطني نغماً مخنوقاً في صدورنا .


رائعة:
د. حسناء القنيعير

أستاذة الأدب العربي ووكيلة قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود - الرياض