نورة آل عمران
عندما يتحدث الناس عن الحبّ تنساب دمعة على خدي، قالت لي ذلك، وهي تغمض جفنيها وتدير وجهها لتبتلع مواجعها، ثم تعاود النظر إليّ وقد علَت شفتيها ابتسامة حزينة ساخرة يائسة تحمل من الحبّ ما يكفي العالم بأسره! قلتُ لها: لا أحد يستحقّ!
نظرت إليَّ نظرة أم لا تملك دفع الموت عن طفلها، وهي تشهد أنفاسه
تتساقط فتتمسك به والموت حائل بينها وبينه..
كان الصمت أكثر ما تكلم بيننا، فيكفي أن تنظر في عينيّ إنسان لتعرف أن الكلام ليس إلا لغة عاجزة عن التعبير عن مكنونات النفس البشريّة!
هذا ما تجنيه الكلمات على القلوب!
وبعد صمت قالت: ما أسعد الشعراء يا صديقتي يُخرِجون معاناتهم قصائد خالدة!
قلت لها، وقد علمتُ من حالهم أكثر مما علمتْ.. الشاعر حقّا هو القارئ مثلك يا عزيزتي، ممن يقرؤون بقلوبهم وأرواحهم وليس من يكتبون لمجرد التعبير عن لحظات مرّت بهم ينازعهم في ذلك حبّ الشهرة والحضور الجماهيري، كما نشهد اليوم! الشعراء قديما كان أغلبهم أكثر صدقا، يقولون الشعر لأنهم حقَا يعانون، ولا يقولون الشعر من غير شعور، أو لشعور مؤقت، كالذاكرة المؤقتة التي لا تحتفظ بشيء من المشاعر الإنسانية ولا تصون عهداً، فلا يَغرّنَّكِ الشعراء فهم أكثر الناس كذبا وأنانية وحبّاً للذات، مهما أذابت قلوبنا قصائدهم إحساساً ووجداً! وقد يكون بيت واحد صادق أو بيتان أجمل وأكثر قدرة على ملامسة شغاف القلوب من ديوان شعر مما يكذبون! وأدار الصمت كأسه بيننا، وبعد أن شربنا من حديثه المتصل بين روحينا، قالت وهي تبتسم - وكأنها تنكر عليّ قولي عن الشعراء - اسمعيني آخر ما كتبت من قصائد! فقلتُ:
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ
ولا جَزِعٍ مما أصابَ فأَوجعا
ثم قلتُ، هذا شاعر موجوع الشعر والشعور، لم يذهلني شاعر أكثر منه في التعبير عن حزنه في قصيدته هذه! وأظنها خففت من فجيعته بمقتل أخيه! وهي في نظري أقوى شعورا من قصيدة ابن الرومي التي مطلعها:
بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي
فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي
وهي في رثاء ابنه!
أتعلمين يا عزيزتي، أن (النقاد) ولا سيما الشعراء منهم يقسمون الصدق في (نظرياتهم النقديّة) فهم يقولون عن بعض القصائد أنها تتميز بصدق العاطفة، أي أن الشاعر صادق العاطفة، وربما يكون كاذب العاطفة، ولكن هذا ما توحي به الأبيات التي صنعتها القدرة والموهبة الشَّاعرية، وهم بهذا التقسيم للصدق، يعملون على توجيه فكر وشعور الجماعة إلى أن للصدق أقساماً، فهذا صدق عاطفي، وهذا صدق تجاري، وهذا صدق مهني، وهذا صدق ثقافي، وهذا صدق تاريخي، وهكذا..
مما يدعو إلى دفع الجماعة على قبول الصدق بالتجزئة، وليس كما علّمنا الصادق الأمين من كون الصّدق صدقاً في كل تعاملات الإنسان أقواله وأفعاله! أتعلمين يا عزيزتي أن تلك الدمعة المنسابة على خدك بكل براءة، أصدق من كلِّ قصائد الشعراء وأكثر قدرة على التعبير، فسبحان مُقسّم الأخلاق!
المفضلات