المفروض أن تعمل البشرية، التي تمر في أرقى مراحل التطور العلمي والفكري، على حماية الإرث التاريخي للإنسان، بما في ذلك حماية المواقع الأثرية، وبقايا المدن القديمة، وكل ما خلفه التاريخ للإنسان كي يأخذ منه العبر ويتعرف على تاريخ ومنجزات الأجداد، ليجعلها خطوطا رئيسية يستمر في السير عليها خلال المضي في مسيرة التطور. ولا تقتصر أهمية الحفاظ على الآثار والعالم التاريخية لأهميتها في تاريخ تطور الإنسان، بل ولأن هذه المعالم غالباً ما تشكل جزءاً لا يمكن العيش بدونه من الهوية القومية لهذا الشعب أو ذاك، حيث تفتخر الشعوب بمنجزاتها عبر التاريخ، بدءاً مما صنعه الأجداد وصولاً إلى ما حققه الخلف من تقدم في أكثر من مجال باستخدام ما تركه القدامى من إرث فكري وأدبي وعلمي وعمراني.




المؤلم أننا، نحن البشر، في عصر النهضة الفكرية والتقنية والعلمية، نقوم عن عمد بتدمير الإرث التاريخي، ويجري هذا إما نتيجة التطور العمراني وزيادة أعداد السكان في هذه المدينة من العالم أو تلك، وحاجة شركات البناء إلى جني الأرباح الخيالية، أو نتيجة الحروب التي لا ترحم الآلة العسكرية الحديثة المستخدمة فيها المواقع التاريخية، ناهيك من حالة الفوضى التي قد تخلفها الحرب، والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى انتشار ظاهرة نهب المتاحف وغيرها من مواقع تكون أشبه ببنوك تحتفظ فيها الدولة بميراث السلف عبر التاريخ. والأمثلة عن همجية وبربرية إنسان القرن الواحد والعشرين في تعامله مع المعالم التاريخية أكثر من كثيرة.




العراق مهد أقدم الحضارات البشرية، أول مثال يفرض نفسه علينا، ويشكل الدليل الحي على بربرية الإنسان الحديث في تعامله مع التاريخ. يربط النحات نزار محمد بين محنة بغداد ومحنة تماثيلها بقوله "تعرض العديد من التماثيل والنصب في بغداد لتدمير متعمد من قبل جماعات مجهولة غاضبة على نبض المعنى وعمق الثقافة التي تحملها تلك التماثيل، وذلك منذ قيام الدبابات الأميركية عند اجتياح بغداد عام 2003 برشق البوابة التاريخية ذات الطراز الأشوري للمتحف الوطني العراقي فدمرت نقوشها الملونة. هذه انطباعات نحات شهير حول ما جرى يجري اليوم في بغداد، المدينة التي تشكل بحد ذاتها متحفاً تاريخياً يروي للأجيال تاريخ تطور البشرية، والكثير من الأحداث من مراحل تاريخية مختلفة. وحتى اليوم ما زالت المعلومات حول سرقة الآثار أو تدميرها تتوارد من بغداد، مع العلم أن ما تحتويه بغداد، والعراق بشكل عام هي آثار تاريخية لها أهميتها وقيمتها التاريخية والحضرية لكل شعوب العالم.




أفغانستان محطة أخرى لم ترحم فيها بربرية العصر الحديث المعالم الأثرية التاريخية. حركة طالبان لا تنتمي إلى شعب أو دين بل هي من إفرازات الصراعات السياسية الدولية، وتحمل فكراً تبرر به نشاطها. قامت هذه الحركة، وتحت ذرائع مختلفة، دينية وسياسية، بتدمير تماثيل بوذا التي علق السيد فضل الله سيرحاي عالم الآثار ومدير متحف بيشاور السابق والمتخصص في تماثيل بوذا الأفغانية، على تدميرها قائلا: «لعبت المنطقة من بيشاور إلى باميان دورا مهما في تطور البوذية، ومن هنا وصلت البوذية الى الصين وكوريا واليابان عبر طريق الحرير القديم... إنها تماثيل مهمة لأنها تشهد على تقاطع الحضارات في ما بينها... انها جزء من تاريخ شعب أفغانستان، لهذا يتوجب الحفاظ عليها كنموذج للثقافة الأفغانية قبل انتشار الإسلام».




إذا كانت الحروب بحد ذاتها ظاهرة لا إنسانية ولا أخلاقية، فإن ما تسببه من دمار للتاريخ ومخلفاته لا يبدو بتلك الجريمة مقارنة بالدور الذي يلعبه الإنسان دون الحروب في تدمير بقايا التاريخ خلال سعيه إلى إنشاء المزيد والمزيد من الأبنية العصرية الحديثة، لأهداف تجارية أنانية مطلقة، مدفوعاُ بجشع وطمع ماديين. واللافت هنا أن أعمال البناء الحديثة تجري، وفق تأكيدات القائمين عليها، تحت اسم التطور العمراني لمواكبة الحضارة. لكن عن أي تطور وأي حضارة يمكن الحديث عندما يكون دمار الماضي ثمنا لبناء المستقبل، ويمكن تشبيه تدمير الإرث التاريخي بمحو ذاكرة رجل في السبعين من عمره، بحجة تنقية عقله من أجل تطويره. لكن دون احتياطي من التراكمات عبر الزمن الماضي لا يمكن بناء أي شيء في الحاضر ومن أجل المستقبل.




مصر الدولة الغنية جداً بآثارها ومعالمها الثقافية التي تعود إلى مراحل تاريخية مختلفة، من قبل التاريخ وحتى القرون الماضية، تشهد بعض الأعمال التي يتسبب فيها العمران الحديث بتدمير مواقع لها قيمها التاريخية والثقافية. قصر البارودي التحفة الجمالية النادرة من القرن التاسع عشر مثال على ذلك، وهو مسجل لدى المجلس الأعلى للآثار في قائمة "قصور ذات قيمة تاريخية". اشترى أحدهم هذا القصر من حفيدة البارودي، وحصل بعد ذلك، بطرق ملتوية على موافقة بهدم القصر، ليحوله خلال 48 ساعة إلى أطلال. أما بيروت العاصمة العربية العريقة فقد تحولت ساحة سولييدير فيها، التي تعج بأوابد التاريخ والحضارات، فقد أزيلت كل معالمها التاريخية الحضارية عن الوجود بسبب طمع وجشع المتنفذين من رؤوس أموال وغيرهم، ليقيموا مكانها شواهد على عصر أكلته المادة والأموال والمصالح الذاتية بقدر ما أهدرت منه إنسانيته وتاريخه وعراقته. ومن كل المعالم التاريخية التي تروي قصة الإنسان في بيروت القديمة، لم يبق أي شيء سوى محاولات تقليد فن العمارة القديم في بعض الأبنية الفندقية والخدماتية الحديثة التي تقف شاهقة الارتفاع وسط بيروت، وكلفت عشرات المليارات من الدولارات، أدت في النهاية إلى إزالة ما يستحيل استعادته من جديد.




عاصمة عربية أخرى لا بد من وقفة عندها لأنها مهد الحضارة البشرية، وما زال التاريخ فيها متصل مع الحاضر، إنها مدينة دمشق، لاسيما دمشق القديمة. أول ما يلفت الانتباه أن الكثير من البيوت الدمشقية القديمة قد تحولت اليوم إلى مطاعم ومقاه. ومع أن أصحاب هذه المطاعم يحافظون على أكبر قدر من المعالم العمرانية التاريخية لتلك البيوت، إلا أن بعض الخبراء يرون أن تحويل البيت إلى مطعم يعني تغيير أسلوب استخدامه، وهذا يهدد بتلاشي البيت الدمشقي القديم كواحد من أهم مكونات البيئة الاجتماعية والثقافية الدمشقية الممتدة على مدى التاريخ. "دمشق القديمة"، هي ما تبقى من صلة وصل بين ماضي وحاضر هذه المدينة. فهي على خلاف الآثار والأوابد المنتشرة في مختلف أنحاء سورية، مدينة تعج بالحياة. حيث لا يزال البيت الدمشقي القديم مأهولا يتابع ما لم ينقطع من تاريخ وذكرى. مشروع شارع الملك فيصل واحد من المشاريع التي تهدد مدينة دمشق القديمة. ويعتمد المشروع أساسا على مخطط المهندس المعماري الفرنسي إيكوشار في العام 1968 الذي وضع مخططا لمدينة دمشق، رأى فيه أن ما يستحق الحماية من المدينة القديمة، هو فقط المساحة الممتدة داخل السور الروماني، مع تجاهل المعالم التاريخية للمدينة خارج السور، والتي توسعت ونمت في عهود المماليك والسلاجقة والأيوبيين والعثمانيين.




أمثلة كثيرة جداً ومتعددة الأوجه تتحدث عن دور الإنسان في تدمير التاريخ إن كان من خلال تدمير المواقع التاريخية أو الآثار الثقافية. ولن يتسع بحث صغير كهذا لذكر كل الأعمال الحديثة التي تؤدي إلى تدمير الإرث التاريخي، فهناك المشاريع الاقتصادية الكبيرة، مثل السدود والطرق وغيره، الكثير منها يجري على حساب تدمير مواقع يعود تاريخها إلى حقب زمنية بعيدة وعميقة في التاريخ. ولا يبدو أن هذه الأعمال المنافية للأخلاق ستتوقف إلا عندما ينشأ وعي جماعي حول المعالم التاريخية وأهميتها في صياغة اليوم والغد، وبالطبع فإن المنظمات الدولية مثل اليونسكو باعتبارها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم، مطالبة بدور أكبر وأقوى في حماية المعالم التاريخية والثقافية، لاسيما عندما تكون تلك المواقع مصنفة ضمن قوائم هذه المنظمة بصفة مواقع ذات أهمية تاريخية. إن تدمير الآثار وكذلك تدمير المدن القديمة لا يُعتبر مجرد تدمير لأبنية من الحجر، بل هو تدمير للعلاقات الإنسانية أيضاً، إذ أن هذه العلاقات والعادات والتقاليد التي تحكمها هي التي أنتجت هذا الأسلوب أو ذاك من أساليب بناء المدن.





مصدر الخبر : وكالة نوفوستي 2008 / 10 / 10


الكاتب : شارل كامله- جريدة تشرين السورية