{عمدة زمان}
بقلم مفوز مفيز الفواز

[الجزء الأول]

عمدة {زمان} وعمدة {اليوم} لا يختلفان في شيء، فكلاهما له عواطفه ، ومواقفه الإنسانية ، وطموحاته ، وكذلك الإنسان في الماضي هو أيضاً كإنسان اليوم له احتياجاته وتطلعاته المستقبلية ، بل أنه قد يفوق مُعاصِرَ اليوم بأن تلك التطلعات هي التي بنت حاضر إنسان اليوم.
والحارة بالأمس هي حارة اليوم بمبانيها وشوارعها وأزقتها وجادَّاتها، فيها أُناس أثرياء يقيمون في بيوتٍ فارهةٍ قد تتعدد طوابقها ويبرز على واجهاتها ثراؤهم ، وآخرون يعيشون عند حد الكفاف في بيوتٍ بالكاد يجدون فيها شيئاً لخصوصيتهم مما يحتاجُه الإنسانُ عند إقامة منزلٍ له ، ولكن ما الذي تغير في الأمرِ كَيْ نتحدَّث عن {عمدة زمان} ولم نقل {العمدة} .. ليس هناك تغيير في العمدة الذي لم يكن له ذلك إلا باختيار أهل الحارة وتزكيتهم ، إنما الذي حدث أن المجتمع الذي عاش فيه إنسانُ الماضي هو الذي تغير ، فأصبح إنسان اليوم ليس كما كان بالأمس ، السبب .. التطور الذي حدث في المجتمعات وما هو متوقع حدوثه مستقبلاً ، وتبعاً لهذا التطور تغيرت احتياجات الإنسان وتبدلت تطلعاته المستقبلية ، وتغيرت على إثر ذلك مفاهيمُه وإدراكاته، والأهم من ذلك التغيير في التركيبة الاجتماعية ، فالحي اليوم أصبح غير قاصرٍ على تلك الجماعات التي كان يؤالف بينهم الترابط الأسري ، والتكافل الاجتماعي ، والوحدة الفكرية ، التي تظهر جلياً على سكان الحي الواحد في غالبِ لهجتهم وأعمالهم وسماتهم الشخصية .. ألخ . حتى أنه عندما يتصادف وأن يُقيم بينهم شخص غريب فإن الزمن لا يطول به كثيراً حتى ينصهر في ذلك المجتمع فيتعايش مع عاداتهم وممارساتهم اليومية ويحترمها ، ولهذا فمن السهل على {عمدة زمان} أن يتفاعل مع ذاك المجتمع الذي اختاره بطوعه عمدة لهم لقناعتهم بأن سلوكه واحتياجاته وطموحاته كما هي لديهم .. وليس شرطاً في العُمودية أن يكون من عَليَّةِ القومِ إنما الذي يُشتَرطُ فيه أن يكون رجلاً من أهل الحيّ ، حكيماً، شهماً، كريماً، محبوباً من غالبيَّتهِمْ ، عُرف عنه فعلُه للخير..أما اليوم فالتركيبة الاجتماعية في الحيِّ غلب عليها التفكك الأسري وبدأت كل أسرة تبرز منها أسرة جديدة لها مفاهيمها وتطلعاتها تختلف تماما عن الأسرة الأم ، ليس لها علاقة أو ترابط بها سوى أنها تنتمي إليها ، كما تعددت الأجناس والطبقات والأيديولوجيات فاتسعت الحواري عما كانت عليه.
هذا هو السبب في ذلك الاختلاف بين العُمدتين ، فعمدة اليوم يعجز عن مجاراة ذلك كما كان في الماضي ، ونعذرُه عن القيام ببعضِ أدواره لما هو عليه مجتمعنا اليوم ، أما قِصتنا التالية عن {عمدة زمان} فما هي إلا صورة مبسَّطة مِن ماضينا الاجتماعي الذي نعتزُّ بِهِ، ففي بَساطتِه اجتمعت كل الخصالِ الحميدة في تكافله الاجتماعي التي يتمنَّى كل مخلصٍ لمجتمعه أن يعمل بها كما حثَّنا عليها ديننا الحنيف ، والتي بها ترقَى الأمَمُ في المجتمعات المتحضرة.
****


[align=justify]الوقت بعد العصر:
o عمران ، صبي العمدة .. قادمٌ يجري من شرق الحارة رافعاً ذيل ثوبه إلى فمه حتى لا يُعيقه ، يأخذ الخطوتين بخطوة واحدة ، حتى أنه عندما يصادفه حجر في طريقه لا ينحرف عنه بل بقفزه مما لفت انتباه المارة تعجُّباً من أمره ، ولحق به من غَلبَ عليه الفضول لمعرفة سريرة الأمر.
واصل عمران جريه لا يلتفت إلى أحد ، ولما أقْبلَ على مِركاز العُمدة أخذ ينادي من بعيد وبأعلى صوته ، يريد أن يسمعه العمدة فيتنبَّه إليه لِيُطلعه على الخبر الهام الذي يحمله قبل غيره.. فهو أحوج ما يكون إلى نقل الأحداث إلى العمدة ...
• يا عمده .. يا عمده ....
• العمده : خير ، اللهم اجعله خير .. على مهلك .. اجلس ، أَيشْ فيك تنادي وأنت تجري ، اِتجْنَّنتْ ياواد .
o يتكلم عمران .. وصوته يتهدّج ، وعلى وجهه ملامح الخوف..
• يا عمده .. اِلْحَقْ ... يا عمده .. اِلْحَقْ .
• العمدة ..قلت لك ، اجلس وابلع ريقك ، لا تتكلم وانت واقف .. خذ المُغراف وشوف الشَّربة قُدامكْ صُب منها واشرب ، ارتاح .. وخذ نفسك ، وتِكَلَّم على مهلك.
o كالعادة ، العمدة يجلس بعد صلاة العصر على مركازٍ أعدَّه بجوار منزله من مجموعة من الكراسي العالية مُغطاة بالسجاد ونحوِه [البعض يسمي الواحدة منها كَرَوَيتْه] ، يتسع كل واحدٍ منها لثلاثة أشخاص ، ولا يقل عددها في الغالب عن ثلاثة كراسي وضع في وسطها طاولة في أحد أركانها فتحة مستديرة يُثبَّتُ في داخلها شَرْبَةُ الماء ، وتستمر الجلسة علَى هذا المركاز حتى صلاة المغرب وتتجاوزه أحياناً إلى صلاة العشاء ، وبهذا يكون العمدة مستعداً لاستقبال سكان حارته ، لِيُقدم لهم الخدمات المطلوبة منه دون أن يكلفهم عناء البحث عنه ، وكان جالسٌ معه الشيخ جابر ، والعسَّه أبو محمد.. جلس عُمران على طرف الكَرَوَيتْه .. يتناول الشربة من على الطاولة ، من أمام العمدة ، ويصب قليلاً من الماء ليشربه ، وبعد أن استكمل شُربه ـــ حمد لله ـــ.. ثُم بدأ في الحديث الذي جاء يركضُ من أجله.
[/align]



{يتبع}