ظل آخر
بربرة..!



إبراهيم الوافي

يستعذب كثير من العوام عملية الربط بين مسميات الأشياء وتواشجاتها الصوتية واللغوية ، تماما كما يستعذبون الربط بين بعض المظاهر الطبيعية وتوجهاتهم الفكرية ، وعملية الربط بين المسميات وأصواتها نظرية لغوية متطورة كان اللغوي الشهير أبو الفتح عثمان بن جني قد وسمها ب ( محاكاة أصوات الطبيعة ) وجاءت في كتابه الشهير ( الخصائص )، وليس هذا المبحث الشهير والمتطوّر على زمنه هو ما عنيته هنا بل حديث طريف دار بيني وبين أحد أصدقائي حول جهاز ( البلاك بيري ) إذ قال متهكّما من أين جاءت تسمية هذا الجهاز ، وهو يعلم أن مسماه مصطلحًا أجنبيا لايستطيع أحدهم ادعاء الربط فيه ..كما ادّعوا أن إبراهيم تحريف ل ( أب رحيم ) أو أن (الكيرسون ) تحريف لمفردة ( قرصان ) ، أو أن كلمة ( بوك ) مثلا هي ضمير ( كتابك ) كما يشاع لدى البعض ، لكنني استعذبت مثل هذه الادعاءات تماديا في إغاظته وانتقاما من تهكّمه حينها وقلت له إن كلمة ( بلاك بيري ) مشتقة من المفردة المحكية الدارجة ( بربرة ) ومرادفها اللغوي ثرثرة كما يدرك الكثيرون ، ولأن هذا الجهاز الصغير الذي علّمنا كيف نستعذب تنكيس رؤوسنا دائما لايزال في جل استخدامه معنيا بالثرثرة ورواج الشائعات والطرائف والأخبار المستفزّة على الرغم من أنه إحدى منجزات الاتصال المهمة والعملية، ولهذا كان لنا في سيرة أجدادنا الأولين سنّة وأحلنا اشتقاقه إلى تلك المفردة المحكية ...!
أعود لعملية الربط وأقول إن تاريخنا حاول دائما إيهامنا أن لغتنا كانت الأولى بالاتباع دائما، وأنها وعاء لكل منجزات الحضارة، ما تقدم من شؤونها وما تأخّر، والحقيقة أن لكل قومٍ لغتهم، ولكل أمة تراثها المحفوظ في لغتها، ولكل حضارة مصطلحاتها وتسمياتها بما يتواءم مع رؤيا أهلها وثقافتهم اللغوية، وفي المقابل لا تحتاج لغتنا العربية لمثل هذه الاعتسافات الساذجة ولن يضيف لمعجمها ( الكيرسون )، ولا هذا الجهاز ( البربري ) إلا شيوعًا لعاميتها وإمعانا في تغريبها، والمزيد المزيد من الرؤوس المنكّسة، والحمد لله أنني مازلت أردّد لأصدقائي : ( سأحاول دائما أن أحيا مرفوع الرأس في زمن البلاك بيري ..) ...!