هذا المقال لأحد المصريين اسمه د . احمد محمد صالح كان يعمل في السعودية نقلته لكم وسوف اجزءه إلى حلقات لتسهل قراءته

فى بلاد الكفيل

مقدمة :

هذه اتجاهاتي ومشاعري و هموم ناتجة من معايشة حقيقية هناك ، ولا يستطيع أحد أن يحاسبني على تلك المشاعر ، أو يجبرني على تغييرها ، أنى لا أتهم ولا اسخر من أحد ، أو استعدى القراء على شعب ولكنى ببساطة اعرض انطباعاتى وهواجسي لعلها تكشف أوهام الحلم السعودي ، الذى سقط الآن ، بمعاول الإرهاب الذى أنتجته المنظومة الوهابية للدين . ومع كل الاحترام للرأي الذى يرى أن على الإنسان أن يسجل الإيجابيات ، ويحجم السلبيات ، فأن المبالغة الفجة فى إيجابيات السعودية والدعاية المفرطة لها فى كل مكان كبلد مقدس مثالى لا توجد به عورات ، علاوة على أنها تملك الإمكانيات الضخمة فى عرض نفسها بصورة نموذجية فى كل العالم ، وبأموالها أيضا تمنع نشر السلبيات ، حفزنى ذلك على أن أساهم بجزء صغير فى تبيان الحقيقة التى عشتها . وكما نحب أن لا يسخر أحد من ثقافتنا ، فأنه يجب علينا احترام ثقافة الآخرين ، وإذا كانت الثقافة هى طريقة حياة ، فلا يوجد ثقافة متقدمة وأخرى متخلفة ، وعلى ذلك نحن لا نسخر من ثقافة شعب ولا ننقد طريقة حياة شعب ، بل نقدم انطباعات عن تلك الثقافة مع كل الاحترام لها ، وننقد الجانب السلوكى منها الذى ينقص من ثقافة الشعوب الأخرى ويكفر طريقة حياتهم وإنسانيتهم مستغلا حاجاتهم تحت إغراءات المال وشعارات الدين. لذلك كنت دائما استعرض جوانب عنجهية وعجرفة المال ، ونقدت منطق السيد والعبد السائد فى تلك الثقافة ، وبينت أن السعودية ليست البلاد الفاضلة التى تدعيها ويتوهمها البسطاء الواقعين تحت ضغط الحاجة ، فهى مثل أى مجتمع فيها الخير وفيها الشر . وهذه الأنطباعات ناتجة عن هموم معايشة حقيقية لمدة خمس سنوات فى مدينة بريده وهى ثانى مدينه بعد الرياض فى منطقة نجد وهى عاصمة إقليم القصيم ، عملت فيها أستاذا جامعيا فى احدى كلياتها التابعة لجامعة الملك سعود بالرياض .

(1 - بداية إهانة الذات)

عندما أنهيت إجراءات السفر واصبح جميع المحيطين بى يعاملوننى كالمليونير وأننى ذاهب إلى الجنة ، إلى السعودية . وكان على أن استلم تذاكر السفر من مكتب السعودية للطيران المسئول عن سفر العاملين فى حقل التعليم بمستوياتهم المختلفة ، وفؤجئت بالزحام الشديد رجال و نساء ، و أطفال تصرخ ، وأسر تفترش الأرض منذ أيام لـتأجيل سفرها ! ومعاملة سيئة من الموظفين ، صورة حية مجسمة للمهانة ، وهنا فعلا تراجعت وقررت عدم السفر، وتراجعت ثانيا تحت الإغراء القوى للمال ، فقد بدأت احسب قيمة المرتب واحلم أننى سوف أكون غنى وملياردير ، وتحملت مهانة ومهزلة مكتب الطيران السعودى التى تكررت إلى أن ألغيت هذه الطريقة بعد ذلك ، وكادت تفقدنى آدميتى تماما . واكتشفت سذاجتى ، وان الموضوع كله سراب وان الإعارة تجعل أستاذ الجامعة مستور بين الفقراء فقط . وعرفت بعد ذلك أنها الطريقة السعودية دائما ، فهم يعتقدون أن على العمالة التى تعمل لديها ، عليها أن تتحمل كل شىء طالما تأخذ ريالات مقابل عملها ، فالمال هو الدواء لعجرفة السلوك هناك ، فهم يشترون كل شىء بالمال . وفى الطائرة البوينج الضخمة الخضراء اللون ، والمرسوم عليها اسم وعلم السعودية ، عندما تدخلها تكتشف أنها أجنبية ، اقصد طائرة أمريكية بالكامل الطيار ومساعدة والمضيفين والمضيفات ماعدا مضيف او اثنين من العرب ، فالطائرة لا ترتبط بالسعودية ألا بالدهان والكتابة الموجودة عليها من الخارج ،علاوة على المطبوعات ودعاء السفر المسجل الذى يذاع قبل الإقلاع، والباقى كله أمريكى وعليه الماكياج السعودى . وصلنا الرياض ترانزيت استعدادا للسفر إلى بريده ، ومطار الرياض الدولى يطلق عليه مطار الملك خالد الدولى ، فهناك مطار باسم كل ملك بل أن السعودية نفسها باسم مؤسسها فكل شىء فيها بأسماء ملوكهم حتى الجامعات كل شىء .وكان المطار فى منتهى الفخامة والجمال والنظافة ، ولكنه جمال فيه سفه وإسراف كأنه يريد أن يعلن انك داخل دولة غنية جدا ، وفوجئت بأحد المسافرين العرب بثوبه الأبيض وذقنه الطويل ساجد على ارض المطار يقبلها واخذ يبكى ، اندهشت كثيرا ولكنى وجدت آخرين مثله يقبلون كل شىء هناك وآخرين مستعدين أن يبيعوا أنفسهم ، ويظهر أنهم افتكروا انهم وصلوا إلى الجنة أو الأماكن المقدسة أو هم مؤمنين بذلك ، وانبهرت أسرتى بدورات المياه الأمير كية الفخمة للغاية ، و لم يبهرنى شىء ، كنت مشغول بتفحص المكان ، وأحسست بغصة فى حلقى وتأكد لى أننى منذ تلك اللحظة أصبحت مواطن من الدرجة العاشرة فى تلك البلاد المقدسة من طريقة معاملة جنود وضباط المطار والجوازات ، وتنبهت أننى لا اسمع العربية رغم أننى وصلت إلى مطار عاصمة اكبر دولة خليجية فيها قدس أقداس المسلمين ، وان ما يصلنى من عربية مصدرها الجنسيات العربية التى وصلت معى ، أما ما أسمعه فهو خليط من لهجات ولغات غريبة ليس فيها الإنجليزية أو الفرنسية ، والجميع يتفاهم بلغة الإشارة وهز الرأس ، وكانت الملامح الآسيوية هى السائدة فى وجوه البشر العاملين فى المطار ، اتضح بعدها أن العمالة من كل جنس ودين وملة من فيتنام والفليبين وتايلاند والهند وباكستان وأفغستان إندونيسيا وماليزيا السودان سوريا مصر اليمن فلسطين الأردن لبنان وقليل من الجزائر . وغالبية العمالة الوافدة قادمة من بلاد الحضارات القديمة مثل مصر والهند وباكستان واليمن وفلسطين ، واقتحمت عينى فى المطار صور ضخمة للعائلة المالكة ، وعرفت بعد ذلك أن تلك الصور تتصدر جميع المؤسسات الحكومية ، ورغم أن هناك فتوى من مشايخهم أن الصور حرام ، . وفى جمرك المطار زادت حدة وعنف المعاملة فتشوا الحقائب بدقة عن الكتب بالذات وفتحوا كتاب كتاب ، وأدركت أن اهتمامهم منصب على المطبوعات وليس على أى مواد أخرى والعجيب تفحصوا الكتب الإنجليزية التى معى بحثا عن الصور العارية رغم أنها كتب علمية فى تخصصى.
وكان المطار خالى تقريبا ألا منا نحن القادمين وجعلناه يستيقظ بأصواتنا المرتفعة وبكاء أطفالنا الذى زاد مع لمعان ونظافة المطار الفخم ، لكنه ميت بلا حياة ، بارد مثل الرخام الفاخر. وانتقلت إلى المطار الداخلى استعدادا للسفر إلى القصيم ، واكتشفت أننى الأجنبى الوحيد فبقية المسافرين الذين وصلوا معى اغلبهم اتجه لخطوط داخلية أخرى لتكملة مشوار هم . وأصبحت أسرتى محط الأنظار وعرفت بعد ذلك أننا لفتنا الأنظار من طريقة ملابس زوجتى وطفلى ، فهى لا تغطى وجهها وتغطى شعرها فقط ، وابنى ذو الست سنوات فى شورت قصير ، وابنتى ذات الثلاث سنوات فى فستان قصير فوق الركبة ، وفهمت بعد ذلك أن ابنى وابنتى ، بملابسهم العادية ووجهة زوجتى تعتبر من المشهيات الجنسية ، تجاهلت تلك النظرات ، وأيقظنى موظفى الطيران الداخلى وهم يتعاملون معى بالذات بخشونة بالغة ، ولم يكن أمامى سبيل ألا أن أتبادل معهم الخشونة بخشونة . وركبنا الطائرة الداخلية إلى بريده عاصمة القصيم ، وكانت طائرة صغيرة ذات محركين وطاقمها أمريكى بالكامل ، ولاحظت أن بعض النسوة اللائى كن يكشفن ووجهوهن وهن معبآت فى السواد بدأن يغطن وجهوهن تماما كلما اقتربنا من القصيم ، وكان منظر الناس حولى فى الطائرة ونساءهم المعبآت فى السواد والذقون الطويلة واللهجة البدوية الخشنة ورائحة الهال تملأ المكان ، وقتها شعرت أننى ركبت عجلة الزمن التى أرجعتنى مئات السنين إلى الوراء ، وسيطر على ذهنى الدراما الدينية التليفزيونية عن أبى لهب والكفار ، إلى أن نبهتنى زوجتى أننا نركب طائرة فى اواخر القرن العشرين ، وان احدث التكنولوجيا تحيط بنا فى كل مكان منذ أن وصلنا ، ولكن منظر الناس وسلوكياتهم جعلنى أعيش آلاف السنين إلى الوراء .
وزاد إحساسى بالغربة جفاء الركاب حولى ونظراتهم المريبة لى ولأسرتى وملامحهم وأصواتهم الخشنة ،ولم أجد ابتسامة أو ترحيبا ، الجميع مكفهر الملامح كأن القيامة على وشك ، والعجيب كانوا يتعاملوا مع المضيفات كأنهن عبيد أو خدم عندهم رغم انهم يحملقون ويمعنون النظر فى وجوه المضيفات وأجسادهن وحولهم زوجاتهم أو بناتهم وهن معبآت فى السواد والخادمات الفلبينات كاشفات الوجه . و كل راكب كان معه كيس أو العديد من أكياس الزبالة السوداء أقصد النساء أسف للتعبير ولكنة تعبير زوجتى وهى تصد هجوم عيونهم . وقد عرفت بعد ذلك وشاهدت وعشت وأدركت أن النساء فى تلك البلاد مشكلة كبيرة لا يعرفون كيف يفعلون بها .وعندما وصلنا مطار القصيم وهو مطار داخلى محلى نظيف منظم ، والعمالة فيه آسيوية الملامح ، بدأت أنا وأسرتى فى تنفيذ عقوبة إهانة الذات التى أجبرتنا عليها الظروف. وكان كل ما سبق هو الإجراءات اللازمة لتنفيذ تلك العقوبة فى سجن الإعارة .