بسم الله الرحمن الرحيم




االتَّسْـنيدَةْ
بقلم
مفوز مفيز الفواز
المفتش الإداري ورئيس قسم الاختبارات سابقاً
بإدارة التربية والتعليم بمحافظة ينبع
15/1/1428هـ







كانت رحلة خير وصلة . نعم .. فيها كل الخير ، فالإنسان يرفه عن نفسه وأهل بيته وينعم بما وهبه الله له فيجلب منه ما يتاجر به ويتصدق ويهبْ ، وفيها أكثر من ذلك .. أنها الصلة والترابط والتراحم والتواد ، واليوم نتذكرها بمسيرة تبدأ فكرتها وعرضها على محبي هذا النوع من الرحلات ومن يرغب من هذا الجيل إعادة الذكرى ولو بشكل مسيرة ترمز للماضي ليشتموا فيه ريح ماضي آبائهم ، ويمشون على أثر خطاهم ليروا بأم أعينهم بأنه لم يتبقى من الديار إلا رسمها ، في رحلة الصيف السنوية ..
وكانت البداية في مخيم صغير نُصب في يوم 15/1/1428هـ في وسط البلد لتكون شاهداً على من تبقى من أهلها بأن حقٌ عليهم أن يذكروا لأبنائهم ما كانوا يصنعون في صيفهم وأن يجمعوا شتات ذكرياتٍ مضت فيستعيدوها مسيرة لعلها تُجدد العهد بها فيطلع عليها من لم يُقدَّر له أن يعيشها فينقلها بدوره إلى جيله وأنجاله ممن لم يعيشوها أو سمعوا بها .
هذه الرحلة التي ضاعت في غياهب الزمن والتي ما كان لها أن تغيب أو تقف لولا مشيئة الله وحكمته ، فمن بقي من الآباء تقطعت بهم السبل وعجزوا عن المسير أو حتى التفكير فيه .. والأبناء غلبت عليهم الدنيا فتفرقوا في الأرض يسعون في مناكبها ، ولم يبقى لهم في هذه الحياة الفانية إلا مطلب رزق وذكريات لأبٍ أو أمٍ قد توفيا أو قريب قد لحق بهما تركوا جميعاً بعدهم أطلالاً قد عفا عليها الدهر وأناس تحلقوا حولها يتذكرونهم .. وهذه هي إرادة الله يوجه الخلق كما يشاء ، ويحيي ويميت لحكمة هو أعلم بها جل جلاله .فالديار كانت جنات الله في أرضه .. فواكه وأعناب ونخيل تحفها من الجوانب تجري المياه في وسطها كالأنهار ليل نهار تنبع من باطن الأرض وتسير تحتها في قنوات لتخرج على سطحها عند كل جنة ، وهذا ما دعا آباءنا وأجدادنا قبلهم يحثون السير لها صيفاً على دوابهم أو حتى على أقدامهم ليهربوا من قيظهم الحار إلى تلك الجنات فينعموا بخيراتها ألتي أودعها الله فيها. ولو أن هذا الترحال لم يكن قاصرا على فصل الصيف بل أن البعض لا يمضي عليه أسبوعاً إلا وتكبد مشقة السفر وبالطريقة إياها إما لضيافة أقاربَ لهم أو لتبادل التجارة في المحاصيل الزراعية ، ولكن الصيف يحوي الخير كُله في وادي ينبع النخل.
لكن الرسم المتبقي عنها أعاد الذكرى ، وكان لزاماً على من أحس بالمسؤولية تجاه إثارة ذكراها أن يتبنى إقامة هذه المسيرة ، فكان لإدارة التربية والتعليم بمحافظة ينبع تحمل هذه المسؤولية على عاتقها لتعيد الذكرى بإقامة هذه المسيرة [ ساهم معها محبي هذا الوطن ماضيه وحاضره ] لتقول لتلك الأطلال ومن كانوا يقطنون بجوارها وقد نفذ صبرهم وهم ينظرون صباح مساء عند مقدم كل صيف الى القادمين لعلهم هم أهل هذه الأطلال .. ولكن هيهات لمن سبق عليه القدر، والرجاء لم ينقطع بين الخالق ومن بقي بأن يُعيد لهم الجنان فينعموا بها كما نعم بها سابقيهم ، تقول لهم ها نحن قدمنا لنحيي الذكري ونؤكد لكم نحن الحاضرة بأننا لم ننسى ماضينا ولم ننساكم فأنتم من صنعتموه معنا ..
****
بحكم الوضع الجغرافي لمدينة ينبع البحر وقرى ينبع النخل فإنهما لم يكونا في مستوى واحد ، فقرى ينبع النخل أعلى بكثير عن ينبع البحر . فالأولى تقع في وادي يستظل بظل جبل ( رضوى ) عصراً ، وتحفُّه الجبال من باقي الجهات وكأنها تريد أن تخفيه عن الناظر إليه من بعيد حتى يدخله ، وتلتقي فيه أغلب الأودية الكبيرة المنحدرة من الشرق والشمال فتجتمع فيه لتأخذ طريقها بين الجبال متجهة إلى نهايتها في البحر، أما الثانية ينبع البحر فهي تقع على الساحل إلى الغرب منها يفصلهما سهل ساحلي تكثر رماله كلما قرب من الجبال المحيطة بها ، ولهذا فإن المسافر إليها يُقال إليه (سنَّد)[1] ــ بتشديد النون ، أي اعتلا الوادي ، وواحدتها تسنيدةٌ ــ لأنه يمشي صعوداً ولهذا فهو يستندُ على قواه في المشي فيلقى من المعانات ما يلقى ، أما المسافر منها غرباً يُقال لهُ ( حَدَر ) لسهولة السير إذا سلك طريق السيل أو أتجه نحو مصبه . (فالتسنيد) كلمة دارجة عند سكان حاضرة ينبع البحر يستخدمونها دوماً عندما يودون السفر إلى ينبع النخل في أي وقت .
أما مسيرتنا اليوم فقد كان سكان حاضرة ينبع ينتظرون انقضاء فصل الشتاء وانتصاف فصل الربيع من كل عام ليشدوا الرحال بعوائلهم فيسندوا إلى ينبع النخل ، مستخدمين في ذلك الحين الدواب [ الجمال والحمير ] لتنقلهم وأمتعتهم ، أما البعض الآخر ممن لم تكن لديه القدرة على الحصول عليها فإنه يمشي راجلاً ولا يحمل معه إلا ما خف وزنه واستطاع حمله طوال الطريق ، إلا إذا وُفِّق بقافلة متجهة إلى ينبع النخل فإنه يسمح له بمرافقتها وتوضع أمتعته عليها مقابل خدمة يُسديها للركب .
****
في الغالب تسير القافلة خاصة إذا كان فيها عوائل وأطفال بعد صلاة الظهر اتقاء حُرقة الشمس ولهيب الرمال أثناء السير صباحاً ، كما يوضع للنساء والأطفال الصغار على ظهور الإبل هوادج صُنعت قواعدها من الأخشاب ليسهل الجلوس عليها مغطاة بالأقمشة لتستر من فيها وتقيهم حرارة الشمس ، فتواصل سيرها عصر يومها وطوال ليله لتصل إلى مقر إقامة ركبها في ينبع النخل مع بزوغ الفجر في اليوم التالي حيث تقطع القافلة المسافة علي مرحلتين أو ثلاث وفي نهاية كل مرحلة يحط الركب عن رحالهم ليستريحوا من عناء السفر ويكون أولها بجوار صمد يُقال له بئر القاضي وهو يقع في ثلث المسافة أو يزيد قليلاً للمسافر من ينبع البحر إلى ينبع النخل ، ويوجد على الصمد بناء صغير يوضع فيه الماء سبيلاً ليشرب من عابروا الطريق ، ويزوده بالماء أهل الخير ومن كان معه فائض منه ليكسب اجر من شرب منه بعده .. وهذه السبل قد وزعت على طول الطريق فالثاني في مدخل ينبع النخل في وادي كثرت رماله يُقال له ( العِقِدَه ) وآخرها عندما تنبسط الأرض قبل أن يصل المسافر إلى ربوة يقال لها المُشَيريف ، وهذه الربوة عندما يعتليها المسافر فإنه يرى مشارف ينبع النخل وتستقبله منها ريح التربة السخية وأريج الزهور والنوير وعبق الفاغية والتي تنقلها الرياح الشرقية متحدية بها الجبال الشامخة والظلام الدامس لتشعر القادم إليها بأنه قد أنهى طريقه مرحبة به بطريقتها الخاصة بما تبثه من روائح عطرية وكأنها تدعوه إليها كما تدعوا النحل والفراشات لتقدم لها أغلى ما عندها على كفوف من زهر .
هذه هي معانات المسافرين من وإلى ينبع النخل في ذاك التاريخ ، حتى بعد أن وصلت بوادر السيارات في الأربعينات الميلادية فهي لم تفِ بالغرض نحو الاستفادة منها في الترحال لكونها تتخذ نوعاً من الخصوصية أو هي لمن يقدر على دفع إيجارها بقي الحال على ما هو عليه في استخدام الدواب حتى انتشر استخدامها وغالبيتها من الشاحنات ، أو الونيتات المقاومة للطرق الوعرة في الصحراء ، وكان من أوائل مالكي السيارات في ينبع البحر هم :
· الشيخ : محمد حامد بن جبر ، وقد امتلك مجموعة من السيارات الصغيرة للاستخدام الشخصي، واللواري للاستخدام العام .
1.سيارة صغيرة [ شفر ليت بكس ] وهي موجودة حالياً بجوار دارهم في خيف المبارك بينبع النخل .
2.سيارة صغيرة [ دوج م 33 بكس] 55 حصان ستة سليندر ، رقم الاستمارة 217 ولوحتها 2247 ، تاريخ ابتداء رخصة السير 1/7/1363هـ صادرة من العاصمة المقدسة .
3.لوري [ ماك ] وآخر [ فورد ] .
· الشيخ : حسن بابطين ، امتلك سيارة لوري من نوع [ فورد] .
· الشيخ : محمد حجي ، امتلك سيارة لوري من نوع [ ماك].
· الشيخ : محمد أحمد صعيدي ، امتلك سيارة لوري من نوع [ دمنتي] .
· الشيخ : أحمد حامد خطيب ، وإخوانه امتلكوا سيارة [ لوري ] .


****




[1])) نبي مع البر تسـنيده وتحديره ** في الديرة اللي يا عل السيل يسقيها
يوم بعض العرب كثرت معاذيره ** طرق السفر والوناسة ما يدانيها
خله يولي وأنا عن خوته خـيره ** ابيع خوة ردي العــزم ما شريها
[ " مسند اللويش " جريدة الرياض السبت 06 صفر 1425العدد 13063 السنة 39 ]