شاعر من ينبع
طـه بخيت
احببت هذا الشاعر , "طه بخيت" .. قرأت اعماله كلها فى موقعه على الانترنت .. http://www.taaaha.com ولاحظت ان له تجربتين من الشعر الحر ..قرأت للشاعر الأديب "ابراهيم الوافى" ان طه بخيت يجمع بين الأصالة والحداثة فى صورة زاهية تتجاوز القالب على اعتبار ان الشعر فكرة وصورة , وهذا يعبر عن وجهة نظر "الوافى" نفسه فى ان القالب التقليدي يصعب ان يحمل حداثة من اى نوع, وهذا يقودنا الى مناقشة الحداثة من حيث معناها واسلوبها فى التعبير عن نفسها , ولكنى اكتفى بتوضيح ان الشاعر "الوافى" يقرر ان الشاعر طه بخيت تجاوز القالب , او فلنقل انه عبر عن افكار معاصرة مصبوبة فى قالب تقليدي .
وقرأت للناقد السودانى "محمد جميل احمد" أن الأستاذ "طه بخيت" شاعر تلتبس هويته الشعرية في موقع ربما كان استثنائيا بين التدفق الحميم والمجرى الضيق . فهو لا يصدر إلا ليترقرق في مجاز خاص . وروحية تتحسس مواطن الهمس والشجن بلغة تفرض قاموسها بهدوء . هذا الالتباس ربما فسر لنا غياب " منبرية " شعر "طه بخيت" وعدم قابليته للخطابة ، أي بعلاقته الخارجية مع الآخر . " وكون لغة الشاعر متعالية شفافة" .
والحق اننى ارى ان الشاعر "طه بخيت" يتميز بوجود علاقة خاصة بين الكلمات يكاد ينفرد بها . وهذه العلاقة هي التى حدت بالشاعر "ابراهيم الوافى" الى ان يستشعر نبض الحداثة فى عروق تجرى فيها دماء كلاسيكية .. وهذه العلاقة الخاصة والمميزة هى ايضا التى دفعت الناقد "محمد جميل" يشير الى اللغة التى تفرض قاموسها بهدوء ..
هناك علاقة خاصة بين الكلمات لدى "طه بخيت" توحى بالتعالى الفني, والمقصود فى تقديرى ان الشاعر ببساطة يكتب لنفسه , والعلاقة الخاصة التى تربط كلماته تجعل القصيدة لا تعطى نفسها بسهولة ..
نحن اذن امام شاعر يحقق ماكان الناقد الكبير الراحل "الدكتور محمد مندور" يبشّر به ويطلق عليه "الشعر المهموس" .. ونحن اذن امام شاعر يكتب بأسلوب خاص جدا بحيث يكاد المعنى يتشبث بوجوده فى بطن الشاعر, ويحتاج الى القراءة مرارا وتكرارا حتى تمنح القصيدة نفسها للقارئ الدؤوب..
انظروا مثلا للعنوان الذى اختاره لديوانه "الأشجان الهاجعة" , انك لا تستطيع ان تمر عليه مرور الكرام , فهو بحاجة الى توقف وتفهم واستساغة .
اخترت قصيدة "خذى بعينك" لدراستها , حتى تتضح المعانى التى ذكرت سالفا , وحتى نحاول ان نتفهم تلك العلاقة الخاصة بين الكلمات والتى يتميز بها شاعرنا .
والآن الى القصيدة :
خذي بعينك
يامن يؤرقــــــــني من جفنها فتر وغيّب القـــــلبَ في ألحاظـــها سـفرُ
أعود تستوحش الميناء من قدمي والدنّ ينكرني والضــــحك والسمرُ
خذي بعينك ماعانيت من ســهري وجربي ليـــــلة مايفعل الســــــــهر
وشاطريني عنــاء الليل واقتسمي سقم النـــــهار وما ألقىوأنتـــــظر
خذي بعينك حزني وارسمي فرحي من ذا يشــاركني هــــــمي فيختصر
ويؤنس الليل في أجفــــــان ظامئة إلى الحنـــــان وللأحـــــــلام ينتصر
وما يضـــــــرك لو جربت ساعتها ســتعرفين فـــــــؤادي كيف يعتصر
وكيف ترحل أشـــــــواقي مسافرة وكيف في العاشقين الشوق والسفر
أقتات حر لهـــاتي فوق ســــــاقية من الســــراب وفي أجوائك المطر
إن تقسمي بيننا فالحــــــب قسمتنا أو تعدلي في الهوى لايُظـلم البشر
------------------------------------
يعشق الشعراء منذ الجاهلية حتى احدث شاعر عمودي ان يتغزلوا فى العيون بأن يصفوها بالمرض , فاللحظ سقيم واللحظ مريض والفتور هو عدم حدة البصر , ولقد تنبهت (بحدة) الى ان الشاعر يستهل قصيدته ( يامن يؤرقنى من جفنها فترُ ) لاحظت انه لم يقل من لحظها , فالجفن الفاتر يختلف عن اللحظ الفاتر فالأخير محبب ولا يسبب الأرق , اما الجفن الفاتر فهو الجفن المنكسر اما بسبب المرض أو السن او بسبب التشاغل . . اذن فهذه القصيدة تستحق ان تُقرأ باهتمام ,فالكلمات فيها منتقاة بعناية فائقة , نعم فقد ارق الشاعر تشاغل المحبوبة , ذلك الجفن الذى تكسره تدللا او تجاهلا , تظاهرا منها بأنها لم تر الشاعر أو غير منتبهة اليه , وهو أمر يستحق الأرق .
وهكذا يأتى قرار السفر الى اعماق العينين , لاستكشاف المجهول , ولكن السفر تسبب فى اضاعة الشاعر لقلبه ( وغيّبَ القلبَ فى الحاظها السفرُ ) هناك يستخدم الجفن وهنا يستخدم اللحظ , واعتقد اننا اصبحنا ندرك قيمة الشاعر اللغوية والفكرية والوجدانية ... ضاع القلب أو ضُيّع فهل يبقى الشاعر هناك أم يعود ؟؟ يبدأ البيت التالى : ( اعود .... ) وهكذا يخاطب الشاعر نفسه ويهمس لنفسه , وعلى القارئ ان يستميت لفهم النص , هذه مشكلته هو .. يعود الشاعر ولكن اية عودة ؟ (أعود تستوحش الميناء من قدمي *** والدنّ ينكرني والضــــحك والسمرُ ) .. احجار الميناء (تستوحش من ) اى لا تأتنس , لقد عاد الشاعر ولكن ليس كما ذهب وبالتالى فكل شئ فى حياته ينكره .. الدن والضحك والسمر (الدن كانت مكتوبة الدان واعتقد انها غلطة مطبعية ) .
وتستمر القصيدة بابداع واضح , تطالب المحبوبة بأن تأخذ بعينها (خذى بعينك هذه جديدة تماما وياليتها تكون عنوان الديوان ( خذى بعينك .. اشجان هاجعة ) تطالبها بأن تأخذ السهر والعناء لكي تحس بما جرى .
والقصيدة رائعة , وما يلفت النظر فيها كثير , ولكنى لا اريد الإطالة اكثر من ذلك .. انظر مثلا ( اقتات حر لهاتى فوق ساقية ***من السراب وفى اجوائك المطرُ ) لديها المطر وهو لايجد الا ساقية وهمية من السراب ؟
واخيرا هل يقبل الشاعر من ابنته الصغرى بعض الملاحظات , حيث اعلن الشاعر عن قرب طبع ديوانه واتمنى ان يخرج كالمرآة المصقولة .
1/ هناك الكثير من الأخطاء المطبعية . فى قصيدة الأشجان مثلا ... ظل حرفى , صوابها ضل حرفى ...كيف يجرؤ , لا بد من ازالة الهمزة لضبط الوزن ( كيف يجرو ) ....تيكن الروح , لعلها تسكن الروح .
2/ فى قصيدة ( عندما تسهر الشمس )
تعانق الكأس فيها فى تدللها
تميس مختالة تزهو وتأتلقا
لامحل لنصب الفعل المضارع ( تأتلق ). وهذا الخلل النحوي لايجوز الإعتذار عنه بالضرورة الشعرية , فهو خارج عن مجالها .
3/ فى قصيدة مشاركة شيخ مسن , وهى قصيدة لطيفة جدا :
لزائرتك التى جاءت على عجلٍ
ورب زائرة جاءت ولم تزُرِ
الوزن مبنى على تسكين التاء فى ( لزائرتك ) وهذا لا يجوز
4/ نأتى الآن الى قصيدة امى ..
اولا هذه هى القصيدة ليستمتع بها القراء :
أمي
أمي وأنت ســــــــــــــــــــعادتي
بالصبح تشـــــــرقُ والمساءْ
ياكلُّ جارحـــــــــــــــــــةٍ تروفُ
عليَّ تزهــــــــــــــــرُ بالعطاء
أنا حُبــــــــــــــــُّكِ الأسنى
وأنتِ الكونُ أجــــمعُه اشتهاء
هل مثل قلبـــــــــــــُكِ من يرومُ
ومثل كفَّـــــــــــــكِ في العطاء
كم تســـــــهرين الليل من أجلي
وكم أمضـــيتِ يومك في عناء
تبكين إن أحسست في عيني
التوجع في مدامعـــــــها البكاء
أمي أحـبـــــــــــــــك هل أكون
بذاك أجمــــــــــــــــلت الوفاء
أبداً ...
أفديكِ طــــــــــــــــالبةً رضاكِ
إليكِ من قـلــــــــــــبي الدعاء
----------------------------------------
لى على هذه القصيدة ملاحظات :
- قافية البيت الثانى ( العطاء ) وكذلك قافية البيت الرابع (العطاء ) وهذا لايجوز .
- طالبة رضاك .. لماذا طالبة مؤنثة ؟
- ( ابدا ) هذه اجابة عن السؤال : (هل اكون بذاك اجملت الوفاء؟ ) وغير جائز ان تقحم اجابة من خارج القصيدة عليها , والأهم ان الاجابة ( ابدا ) تتعلق بالمستقبل , اما الإجابة عن امر حدث بالماضى فهى ( قط ) .
- هذه القصيدة من مجزوء الكامل
متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلان
ونحن نقول ثنائى , نقصد الشطر , أي البيت رباعى ... الشطر ثلاثى ( مستفعلن مستفعلن مستفعلن ) أي البيت سداسى .. الشطر رباعى ( فعولن فعولن فعولن فعولن ) أي البيت ثمانى .. وممنوع منعا باتا ان يأتى البيت بعدد لا يقبل القسمة على اثنين خماسى مثلا أو سباعى , حتى لا يكون فى الشطر نصف تفعيلة .. وفى هذه القصيدة جاء بيتان بخمس تفعيلات , وهو خطأ عروضي لا يُغتفر , بالاضافة الى أن البيتين مكسوران بالنسبة للقصيدة .
كم تســـــــهرين الليل من أجلي
وكم أمضـــيتِ يومك في عناء
تبكين إن أحسست في عيني
التوجع في مدامعـــــــها البكاء
فالمفروض ان يكونا مثلا :
كم تسهرين الليل من
اجلى ويومك فى عناء
تبكين ان احسست فى
عينى التوجع بالبكاء
-------------------------------
واخيرا اختتم عجالتى - معتذرة عن اي تقصير - بهذين البيتين الجميلين لشاعرنا الكبير , وارجو لديوانه كل انتشار , واملى الا يتأخر طبعه كثيرا ....
اسائل عنك , انتهبُ الليالى
فأجعل عقد انجمها ركابى
اسافر اينما يممت شوقى
ويرحل بين عينيك اغترابى
المفضلات