===============
هناكَ في آخر الذاكرة .. ترقدُ كسرةٌ عتيقة أذكر أنني حفظتها وتعلَّقتُ بها منذ سنٍّ مبكرة جدًّا
.. تحديدًا منذ بدأت دهشة الإيقاع الموسيقي للشعر تثيرني وتتناغم مع داخلي فيشعر بتميُّزها عن الكلام العادي المنثور في ردهات المكان والزمان ..!!
والكسرة هي :
يامن درى ودعوبك من
................ عليك يالعين من وصَّوا ؟!
يالعين من هو عليك يحن
............. بعد المودين ماقفوا ؟!
إلى اليوم لاأدري لمن هذه الكسرة ( وربما استعْذبتُ ذلك ) ليتاحَ لي فرصة نسج الخيالات البكائية حولها
كأن أنسبها لامراةٍ مثلاً لتكون أشد عمقًا وأصدق عاطفة .. بل ولم أضعها يومًا في ميزان النقد الذي أتيح لي التعرف على أدواته ( علميًّا) وأحاول بالتالي إدراك سر تشبثها في ذاكرتي لأكثر من عقدين من الزمان
.. أذكر أنني كلما دخلتُ إلى مساحتها الضيقة في ذاكرتي تراءت بين عيني عناقيدٌ من الصور البكائية ..!
مرَّت السنون متعاقبة .. والذاكرة لاتزال تستقبل ( بل وتعيش ) المزيد من هذه الصور البكائية وتختزل معظمها .. بدءًا بأبي ذؤيب الهذلي ومرورًا بابن الرومي حين يقول :
( توخَّى حمام الموتِ أوسط صبيتي
......................فلله كيف اختار واسطة العقد )
وانتهاءً بالسيَّاب حين يقول :
( كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأنَّ أمه التي أفاق منذ عام .. فلم يجدها
ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له بعد غدٍ تعود
لابدَّ أن تعود
وإن تهامس الرفاق أنها هناك
بجانب التلِّ تنام نومة اللحود ...!! )
تمرُّ كل هذه الصور البكائية وتحفر لها مكانًا في ذاكرتي .. لكنها على الإطلاق لم تستطع تحرير تلك المساحة التي اجتاحتها تلك الكسرة منذ سنٍّ مبكرة ..!!
ربما لم تكن الكسرة رثائية .. كشأن هذه الصور لكنها بالتأكيد توحي لي بذلك ..
وربما كانت هذه الكسرة نموذجًا حيًّا لعلاقتي بفن الكسرة على الإطلاق .. إذ تبدو العلاقة بين ذاكرتي المنهكة والكسرة علاقة بدائية متجذِّرة تحكمها ( أصالة الموروث ) لا ( قيمته الفنيَّة ) هذه الأصالة التي تحمل عبق الماضي بكل عفويته وبدائيته وهو جديرٌ بالتالي أن يقف له الحاضر بكل ثقافاته ومتغيراته وتحولاته احترامًا وإجلالاً ..
========================= وريث الرمل
المفضلات