على درب التَّسنيدَة 2
العَوْد أحمدُ
عدنا والعود أحمدُ .. عُدنا إلى ما مضى من زمن حيث التسنيدة الأولى .. زمن كاد أن يُنسي البعض منا إيَّاها ، ولكنه مضى مع قصره .. شهرٌ ، شهران أو ربما عدة أشهر ، ولم نشعر به .. هي سنة الحياة ، أما بعضنا بقي يفكر في الكيفية التي تجعل من التسنيدة الأولى حاضراً في نفوسنا ، فربما تجاوز بنا الوقت إلى عقودٍ أو قروناً من السنين .. لا يهم كم من الوقت نقضيه لتحقيق ما نهدف إليه . فقد سبق أن أوقفنا الزمن بعد ما مضى منه عقوداً على ما كان آباؤنا عليه ، ولم يكن هدفنا حينها الوقوف على الأطلال للتباكي حولها ، إنما هي العِبْرة والتفكُّر .. فنصل ماضينا بحاضرنا ، ليمتزج أدبنا بأدبهم وعلمنا مع علمهم وبناؤنا ببنائهم ؛ واليوم وأمام تساؤلات أبنائنا .. أو ممن لا يرون في إحياء مثل هذا التراث المتمثل في التسنيدة ضرورة ، إنما يرونه تخلفاً .. وأن نظرة إلى الوراء نسترجع بها ما كان يصنع الآباء عمل لا طائل منه . فلماذا لا نتوقف عند هذا الحد .
فإن كان هذا رأي أبنائنا فنكون قد أخطأنا في طريقة إشباعهم بروح الانتماء والعراقة والوفاء لمن كانوا سبباً في وجود حضارة أقل ما فيها أننا نتسمى باسمها وارتبطنا بها في بقعة صغيرة من الأرض انحصرت بين البحر والجبل . أما إذا قاله غيرهم فهم المخطئون لأنهم يرون الواقع بعين واحدة ويغمضون الأخرى .
وهناك طرف ثالث بين مؤيدٍ ورافض ، مؤيدون لأنهم يرون في التسنيدة الأولى من منظورهم أنها رياضة مشيٍ أو ما يُسمى [مارثوناً] وكفَى ، وعندها يتساءلون عن الجهد والوقت المبذولين في سبيل إحيائها ، وإشغال الناس بها ، فهم يرون أنه بإمكان أي نادٍ من النوادي الرياضية أو حتى جماعة من الهواة تتبناهم هيئة مُعينة تنفيذ ذلك [المارثون] ، فهو مشروع يبدأ بصافرة مدربٍ إيذاناً بالانطلاق ليلتقط من سَبَق جائزته نظير فقدانه بعضاً من وزنه ، وربما ــ لا قدر الله ــ خرج منه بشيء أعظم من ذلك ، ولهذا فهم يؤيدون التسنيدة فكرة ويرفضونها تنفيذاً.
هذه الرؤيا كانت بعين واحدة .. عندها نقول لهم لقد أصبتم في معرفة هدف واحد ولكنكم أغفلتم النظر عن أهداف أخرى كانت سبباً في إثراء التسنيدة ، فلو نظرتم بالعين الأخرى لاكتملت لديكم الرؤى .. فالمشي أو الجريُ بحد ذاته ليس هو الهدف الأساسي من التسنيدة وأيضاً ليس الهدف منها الانتقال من مكان " ما " إلى آخَرَ .. ولكن الهدف من التسنيدة أبعد أفُقاً من ذلك [ورياضة المشي على الأقدام] للانتقال من مكان إلى آخر من ضمن أهدافها ، أما الأهداف الأخرى فهي ماذا يستطيع أن يُقدم إنسان اليوم مثل ما قدمه آباؤنا من منجزات مع افتقارهم للوسائل المعينة المتوفرة في أيامنا هذه ؟ .
لا نريد ممن عارض فكرة الاستمرار في التسنيدة أن يُثقل على نفسه فيرهقها بالمشي أو حتى الجري ، ولكن نريده أن يشحذ الفكر ويُشغل قلمه .. فيُفكر بعمق الماضي بكل منجزاته ( الفكرية والأدبية والعمرانية ) وقبلها يسأل نفسه ، ماذا قدم هو للتاريخ .. أو الأجيال المقبلة لكي يُُذكرَ به ..
أيقول أقمت تجارة : سيقولون له إنها زائلة مع أصحابها ؛ أم يقول أنه بنى الدور وشيد القصور ، وهي أيضا زائلة إن لم يُزلها هو لعدم تناغمها مع متطلبات عصره ووضعه الاجتماعي ، ولم يكن أقامها بهدف توريثها للأجيال من بعده ، فقد بناها له فقط ، قمة الأنانية .. أو ربما جهلٌ بالكيفية التي تُبنى بها لتبقى قائمة ما شاء الله لها أن تقوم ، فتُصبح موروثاً تتحدث عنها الأجيال .. حتى إذا ما تهدمت وطُمرت أساساتها في باطن الأرض ازدادت حفظاً وبقيت ليبحث عنها من يرغب في المزيد من المعرفة فيجدها .. ثم بعد ذلك له أن يُطلق العِنان لقلمه ليصور لنا ما توصل إليه من فكر وأدب دفين ينثره لنا دُرراً على حواشي التسنيدة .
هذه هي فكرت التسنيدة الأولى وعلى أساسها بنيت أهدافها .. لنقتفى أثار من سبقونا فنرى كيف استطاعوا أن يجعلوا بصماتهم الدالة عليهم باقية بعد موتهم ، كسجل نفتحه أنا شئنا .. أما نحن جميعاً ماذا وضعنا من أثرٍ ليُفتح من بعدنا فيطلع عليه الآخرون .. حتى أن غالبيتنا يعجز عن تقديم أبسط الأمور لأبنائه ، لأننا نفتقر إليها وهي الرواية التي تصف ماضي كل واحد منا ، فكبارنا أطال الله أعمار من بقي حياً في صالح العمل ، عندما نجلس إليهم لا يُملُّ حديثهم عن بطولاتهم أو أعمالهم الخارقة في زمانهم ..
ونحن لا شيء لدينا يستحق القول .. أفلا نعتبر؟.
[ التسنيدة 2] ستكون بمشيئة الله استمراراً لسابقتها ، مجددة لها .. لأنه في موروثنا من كان فقيهاً وعالماً وأديباً وشاعراً ورحالة .. فلم لا نُسخر جميعاً فكرنا في البحث والتقصي في ماضيهم الدفين لنطرحه على بساطها ونفك طلاسمه لينهَل منه جيلنا والأجيال القادمة أدباً وعلماً وعندها إن شاء الله سنُذكر بخيرٍ لأننا تركنا لهم ذلك بدلاً من أن نزيد البكاءَ على الأطلال نحيباً لعَجْزِنا عن عمل أي شيء . .
ولو فعل آباؤنا ذلك لما وَصَلَنا منهم شيء.
وفقنا الله جميعاً وألهمَنا الصَواب ..
****
المفضلات