رحلة جبلية .. رحلة صعبة

مقتطفات من مذكرات فدوى طوقان
الطفولة - المراهقة


( 1 ) الطفولة


خرجت من ظلمات المجهول الى عالم غير مستعد لتقبلى . أمى حاولت التخلص منى فى الشهور الأولى من حملها بى . حاولت وكررت المحاولة , ولكنها فشلت .

تاريخ ميلادى ضاع فى ضباب السنين .. اسأل أمى .. تجيب ضاحكة : كنت يومها اطهى "عكوب" هذه شهادة ميلادك الوحيدة التى احملها !

وجدت ان سمات مواليد برج الحوت تنطبق بشكل غريب على طباعى وميولى , فوضعت نفسى فى برج الحوت .

لم تكن الظروف الحياتية التى عاشتها طفولتى مع الأسرة لتلبى حاجاتى النفسية , كما ان حاجاتى المادية لم تعرف فى تلك المرحلة الرضى والإرتياح .

لثد ظللت اتلهف للحصول على دمية تعمض عينيها وتفتحهما , وكنت استعيض عنها بدمية تصنعها لى خالتى ام عبدالله أو ابنة الجارة علياء من مزق القماش وقصاصاته الملونة . . حتى تلك الدمى توقفت عن التعامل معها منذ زجرتنى أمى بقولها : "مسخك الله , كفاك انشغالا بالدمى , لقد كبرت" .. كنت يومها فى الثامنة من عمرى!

ولم اكن احب ملابسى لاقماشا ولا تفصيلا , فقد كانت أمى تخيطها بنفسها , ولم تكن تتقن هذه الصنعة .

اما بنيتى فكانت عليلة منهكة بحمى الملاريا التى رافقت سنى طفولتى . وكان شحوبى ونحولى مصدرا للتندر والفكاهة واطلاق النعوت الجارحة علي : تعالى ياصفراء .. روحى ياخضراء !

كنت اسمع عن اشياء مثيرة تميز ليلة القدر دون سواها من ليالى العام , كانفتاح السماء للدعوات التى تصعد من القلوب الملهوفة فتستجاب .. وهكذا كنت انزوى فى ليلة القدر عند ركن فى ساحة الدار المكشوفة أو عند شجرة من أشجار النارنج , وأرفع وجهى الى السماء ضارعة اليها أن تجعل لخدى لونا جميلا مشربا بالحمرة حتى يكفوا عن تسميتى بالصفراء والخضراء !

كنت اتلهف للحصول على شئ غير الطعام : حلق ذهبي أو سوار أو فستان جميل ثمين أو دمية من دمى المصانع .. كنت اتلهف للحصول على حب ابوي واهتمام خاص وتحقيق رغبات لم يحققاها لى فى يوم ما .

كثيرا ماسمعت امى تذكر طرائف ونوادر عن طفولة اخوتى , مما كان يثيرنا نحن الصغار فنضحك . وكنت انتظر ان تروى شيئا عن طفولتى , ولكن دورى لم يأت قط . فأبادرها بالسؤال بلهفة طفولية: احك لنا يا أمى شيئا عنى , ولكنها لم تكن لتبلّ غليلى ولو بذكر طرفة تافهة , فأنكمش فى داخلى , وأحس بلاشيئيتى , اننى لاشئ وليس لى مكان فى ذاكرتها !

لم يكن يفصل غرفتنا عن غرفة زوجة عمى وبناتها سوى ساحة صغيرة مسقوفة تتوسطها بركة تتدفق المياه من نافورتها . وفى كل صباح قبل ذهابنا الى المدرسة كانت زوجة عمى تجلس ابنتها شهيرة امامها وتقوم بتمشيط شعرها , وفى الوقت ذاته اكون قد اتخذت مقعدى أمام أمى لتقوم بتمشيط شعرى . كنت وأنا فى مقعدى ذاك أنظر الى زوجة عمى وهي تدلل شعر شهيرة , تمشطه على مهل وتتهامس معها بحديث الأم المهتمة بإشباع عاطفة ابنتها بشكل تلقائى وغريزي . وكان هذا كله يحدث أمام بصرى وسمعى بينما كنت اتلقى الضربات على ظهرى من قبضتى أمى العصبيتين بسبب ضيقها بتململى بين يديها , كان تمشيطها لشعرى سريعا عصبيا موجعا , فلم تكن تتعامل مع خصلاته المعقدة الطويلة بتمهل ورفق .

كنت فى أعماقى اغتبط حين يهاجمنى دور حمى الملاريا بين شهر وآخر , اذ كانت هذه هي المناسبة الوحيدة التى تعلن فيها أمى عن مشاعرها الأمومية تجاهى , فأشعر بدفئها وحنانها الحقيقيين .

فى هذا البيت وبين جدرانه العالية التى تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة "الحريم" الموؤدة فيه , انسحقت طفولتى وصباي وجزء غير قليل من شبابى .



( 2 ) المراهقة


حين وصلت سن البلوغ , كنت قد تعافيت من حمى الملاريا , وسعدت بنعمة العافية .. ولفت نظرى تفتح جسدى .. خفت وخجلت .. اربكنى نموّ صدرى الذى اصبح الآن ملحوظا , فكنت اعمل على إخفاء هذا النمو .. ورحت أراقب الأمر كله بحياء شديد , كما لو كنت ارتكبت ذنبا مخجلا استحق عليه اشد العقاب .

وجاء الربيع , وعرفت هذا الشئ المسمى حبا .

امتلأت الأعماق بعطر زهرة الفل الغامض العجيب , وحرك مشاعرى شئ يستعصى على التفسير ..وراح القلب يذوب تحت تأثير اغانى "محمد عبدالوهاب" المترعة بالعاطفية ..(تعاليْ نُفنِ نفسينا غراما) ؟؟ ( منك ياهاجر دائى) ..(قلب بوادى الحمى خلفته رمقا) .

فقدت شهيتى للطعام , وعرفت الأرق الجميل , الملئ بالأخيلة والتصورات الهانئة , ولأول مرة عرفت كيف يغطى وجه انسان ما كل الوجوه الأخرى , ويكتسح الوجود بكامله .

كان غلاما فى السادسة عشرة من العمر ..ولم تتعد الحكاية حدود المتابعة اليومية فى ذهابى وإيابى فما كان لمثلى ان تزوغ يمينا أو شمالا ,كانت الطاعة من أبرز صفاتى , وكنت مسكونة دائما بالخوف من أهلى .. كان التواصل الوحيد الذى جرى لى مع الغلام هو زهرة فل ركض الي بها ذات يوم صبيٌ صغير فى "حارة العقبة" وأنا فى طريقى لبيت خالتى .

ثم حلت اللعنة التى تضع النهاية لكل الأشياء الجميلة ..كان هناك من يرقب المتابعة , فوشى بالأمر لأخى يوسف .. ودخل يوسف علي كزوبعة هائجة : "قولى الصدق" .. وقلت الصدق لأنجو من قبضتى يوسف الذى كان يمارس رياضة حمل الأثقال.

اصدر حكمه القاضى بالإقامة الجبرية فى البيت حتى يوم مماتى .. وهددنى بالقتل اذا ما تخطيت عتبة المنزل .. وخرج من الدار لتأديب الغلام .

حملت عمتى وأفراد اسرة عمى منظارهم المكبر لينظروا من خلاله الى الحادثة الصبيانية البريئة , فيعطوها حجما أكبر من حجمها .. شرعوا يسلطون عليَّ نظراتهم المتشككة ويحملون عنى افكارا جائرة ..

انزرعت فى نفسى الغضة الطرية فكرة سيئة عن نفسى, خلقت فيّ عادة السير وانا مطأطئة الرأس لا اجرؤ على رفع عينىّ نحو وجوههم التى كانت تلقانى صباح مساء بالعبوس والكراهية .. لقد شوهونى امام نفسى .

عاد ابى ذات صباح لبعض شأنه , وكنت اساعد أمى فى ترتيب اسرّة النوم ..

سأل امى :

- لماذا لاتذهب البنت الى المدرسة ؟
- تكثر فى هذه الأيام القصص حول البنات , فمن الأفضل وقد بلغت هذه السن أن تبقى فى البيت .

قال ابى : حسنا , وخرج !