. عبد الملك بن عبد الله بن زيد الخيال
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم، وبث فيه روحا ونفسا، ورزقه عقلا يفكر به، ومنحه إرادة، ومشاعر فياضة من عواطف الحب والوجدان.
وهنا نتساءل إلى من تتجه هذه المشاعر والانفعالات؟
ومن نفرح لرؤيته ونحزن لمرضه، ونقلق لغيابه
ونسر لصحبته ونضيق لآلامه ونبتهج لنجاحه، ونستعد أن نقدم بعض التنازلات من أجل أن نحتفظ بعلاقة معه؟ هذه الانفعالات والمشاعر تتجمع حول محور واحد نسميه الحب.
لكن ما هو الحب، هل هو مشاعر إلهية سامية وطاهرة ونقية، أم أنه عطاء وتضحية بلا أنانية ولا كبرياء أم هو التقاء روحين؟ أم... أم... أم... أم أنه شعور إنساني يحدث لأي إنسان دون إرادة منه، يقتحم النفس ويولد مشاعر لا نستطيع تفسيرها، ونعجز عن وصفها، أم أنه رابطة روحية، وإحساس نفسي غريب وغامض، وشعور وجداني يعيش في أعماق النفس، يلقيه الله في القلب والوجدان ليجتاح حياة الفرد بحيث يحمل صاحبه على ميل قلبه لمن يحبه، والراحة بقربه والشوق لرؤيته، والرغبة في الاطمئنان عليه، أم أنه حالة نفسية وعاطفية تنبع من أعماق الإنسان لتمنحه السعادة والهناء، وتربطه بالمحبوب ارتباط الانسجام والتوافق والرضا، حتى يكاد المحبان أن يتحدا، وإذا ترسخ الحب، وتحول إلى شعور باحتواء المحبوب، شعر المحب فيما وراء الوعي، أنه ومع من يحب مندمجان في ذات النفس والروح، لذلك بالحب يرى المحب الجمال الحقيقي وهو جمال الروح في من يحب الذي لا يدركه البصر المجرد، ولكن تراه عيون المحب.
وتذكروا قول رسول الهدى- صلى الله عليه وسلم- : (حبك الشيء يعمي ويصم)، وقول أحد الشعراء:
ومن كان من طول الهوى ذاق سلوه
فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمعة بارق
، أو عمى القلب عن رؤية غير المحبوب وصممه عن سماع العذل فيه، وقول آخر:
يا مقيما في خاطري وجناني
وبعيدا عن ناظري وعياني
أنت روحي إن كنت لست أراها
فهي أدنى إلي من كل دان
. وقيل: (خيالك في عيني، وذكراك في فمي
ونجواك في قلبي، فأين تغيب)؟!
، وكذلك قيل:
(ما ملكنا قلوبنا إننا العرب
ما ملكنا دماءنا أمرنا عجب).
وتأثير الحب على المحبين عظيم، يمدهم بالقوة فتزداد قوتهم، ليتعدوا كل العقبات، بحيث لا يعوقهم عائق، لينجح حبهم وينتصر، ويقال: (ما أقوى الحب الذي يجعل من الوحش إنسانا، وحينا يجعل الإنسان وحشا). والحب إن كان يملأ القلب بالسعادة إلا أنه قد يفيض الحياة بالتعاسة والشقاء، ليقع المحب تحت وطأة العذاب، فمع سعادة وبسمة اللقاء هناك دموع الوداع وعذاب الفراق، وهو أن الغدر والخيانة وأنغام الهجر.
وصور الحب كثيرة ومتنوعة، منها الجميل ومنها المؤلم، كالحب من طرف واحد، قلب يحب، والطرف الثاني في عالم آخر لايكاد يشعر أو يحس، قلب يحب بصدق وقلب خائن غادر، وأناس يأخذون الحب وسيلة للاستمتاع والتسلية والعبث بمشاعر الآخرين، بادعاء الحب، ومنهم من يتخذ الحب ستارة يختفي وراءها لتحقيق أغراض أخرى. والحب كما قال ابن الحزم (أوله هزل وآخره جد، لا يدرك معانيه إلا بالمعاناة). ليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة، إذ إن القلوب بيد الله عز وجل، كما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وأسماء المحبة كثيرة نذكر بعضا منها الهوى وهو ميل النفس لشيء معين، والغرام وهو الحب اللازم، والهيام وهو جنون العشق، والوجد، وعرف بأنه الحب الذي يتبعه الحزن بسبب ما، والشغف المأخوذ من الشغاف الذي هو غلاف القلب، والكلف أي شدة التعلق والولع، والعشق وهو فرط الحب، والجوى أي الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن، والشوق هو سفر القلب إلى المحبوب، والخلة وهي توحيد المحبة، وسميت كذلك لتخللها جميع أجزاء الروح وتداخلها فيها، وبذا سمي الخليل خليلا، والود وهو خالص الحب وألطفه وأرقه، وتتلازم فيه عاطفة الرأفة والرحمة، ويقول سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}،(البروج) وأيضا: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}(هود).
كما أن للحب أشكالا من التعبير كتبادل كلمات الود، والثناء والتحية والمصافحة والنصيحة والهدية ورفع الأذى والمصاحبة في السير والزيارة، والاحتفاظ بالصورة... وغير ذلك.
ولم تكن مفاهيم الحب قيما فلسفية مجردة، بل جسدتها الأديان منهجا عمليا يستوعب قلب الإنسان وروحه وعقله وحسه ونشاطه وغرائزه، ولأهمية الحب في الحياة، وقيمته في سعادة الفرد والأسرة والمجتمع، اعتبر ديننا الحنيف الحب قيمة عليا في رسالته، وهدفا ساميا من أهدافه، يسعى بشتى الوسائل لتحقيقه، وتكوينه في النفس البشرية، وإشاعته في المجتمعات، وبناء الحياة على أساس من الحب والمودة والاحترام.
ويتجسد الحب في مجالين هما: مجال الحب الروحي: المتمثل في حب لله والأنبياء والرسل وللقيم العليا والمعاني المجردة مثل حب عمل الخير والحق والعدل وغير ذلك. والمجال الآخر هو مجال الحب الحسي، وهو الحب المألوف في عالم الإنسان من حب الوالدين والزوجة والأبناء والحاكم العادل والوطن والأرض والأرحام والناس والجمال والطبيعة والعلم وغير ذلك.
وحب الله سبحانه وتعالى هو أعلى وأنقى وأسمى وأطهر حب، وهو فرض على كل مسلم، فمتى أحب العبد ربه ترك ما لا يرضيه وأطاع أمره واتبع شرعه. وترك المعاصي وقد قيل: (من أحب أن يعلم ما له عند الله عز وجل فلينظر ما لله عز وجل عنده، ومن أوفى بهذا الحب نال محبة الله تعالى، ويا لها من كرامة إذا حصل. ومن حب الله سبحانه وتعالى يبدأ الحب {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، (آل عمران) والعلاقة بين الخالق والخلق مبنية على الحب والود، فهو الرحيم الودود ويحب المحسنين والتوابين والمتطهرين والمتقين والمقسطين، فقال: {نَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}،(البقرة) و{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}،(البقرة) و{فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}،(آل عمران) و{وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}،(آل عمران) و{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(المائدة).
أما حب الرسول- عليه الصلاة والسلام- والأنبياء والرسل، فهو فرض على كل مسلم. كما أن الله سبحانه وتعالى زرع محبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قلوب الصحابة والمؤمنين حتى ان الواحد منهم قد يفتديه بروحه، وهذه نعمة لا تشتريها الأموال، فقال سبحانه: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
كما يحث ديننا الحنيف على حب مكارم الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والإيثار وعزة النفس عن الدناءة والتواضع والقناعة والصدق والإخلاص والمكافأة على الإحساس بمثله أو أفضل، والتغافل عن زلات الناس وترك الانشغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك من حب الحق وإيثاره والأمانة والرحمة وقوة الإرادة وحب العطاء وعلو الهمة وسماحة النفس، فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة، وكذلك حب مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من أصحاب الخصال المذمومة، مثل الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك، فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس. فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل وأحبه الناس، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف برذالة الخلق وأصبح مكروها من المجتمع.
ومن ذلك الحب الروحي نجد بعض القيم والمعاني المجردة مثل أن حب عمل الخير يشير إلى الاستعداد عند الإنسان لمساعدة الآخرين من الفقراء والمحتاجين عن طريق المال أو الغداء وغير ذلك. ففي البداية كان عمل الخير يتم عن طريق أفراد من الأغنياء ممن يتوفر لديهم حب عمل الخير ومعاني البر والإحسان، ولكن ما فتىء عمل الخير أن اتخذ أشكالاً أكثر تنظيما بدافع الإحسان مما جعل مفهوم فعل الخير يشهد تطورا ملموسا بانتقاله من الإطار الفردي المبني على الإحسان إلى مجال اجتماعي منظم بهدف حل المشكلات التي تعدت نطاق الفرد الواحد إلى المجتمع في قطاعاته الواسعة على قاعدة أن الخير حق من حقوق المواطن والمواطنة، والإسلام يحتوي على مبادئ أساسية لحب فعل الخير من أهمها الزكاة والصدقة، فالزكاة تعتبر من أركان الإسلام الخمسة. أما حب الحق فنسأل الله أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أجمع البشر في الماضي والحاضر على حب العدل ومآثره، والتفاني في سبيله، وبغض الظلم واستنكاره. والعدل عبارة عن مناعة نفسية، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفزه على العدل وأداء الحقوق والواجبات، وبما أن الحكام ساسة الرعية وولاة أمر الدول، فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلي به، وبعدل الحاكم يستتب الأمن ويسود السلام ويشيع الرخاء وتسعد الشعوب، لأن النفوس فطرت على حب العدل وعشقه وبغض الظلم واستنكاره، فهو سرحياة الأمم، ورمز فضائلها وقوام مجدها وسعادتها وضمان أمنها ورخائها وأجل أهدافها وأمانيها في الحياة. وما دالت الدول الكبرى، وتلاشت الحضارات العتيدة، إلا بضياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل. وقد مجد الإسلام العدل وعنى بتركيزه والتشويق إليه في القرآن الكريم بقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (98) سورة النحل }وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، وكذلك {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(النساء).
أما الحب الحسي فيندرج تحته الحب الأسرى، الواجب على أفراد الأسرة، نحاسب عليه إذا قصرنا فيه، وحب الأب لأبنائه يحمله على أن ينفق عليهم ولا يقصر في القيام بواجبهم، والتعامل مع الأبناء بروح الحب، وإشعارهم بتلك العواطف والأحاسيس يدعو الآباء إلى تربية أبنائهم على الحب، لأن الحب إذا ملأ قلوب الأبناء، كما ملأ قلوب الآباء، نشئوا على الصلاح وحب الآباء والبر بهم، وحب كل من حقه أن يعامل بهذه العاطفة. فالحب حاجة نفسية يؤدي فقدها أو نقصها إلى أمراض وحالات نفسية خطيرة، لذلك حب الوالدين والبر بهم هو حب بر وإحسان، وهو من صفات الأبناء الصالحين، فالوالدان هما مصدر المعروف والإحسان والحب للإنسان في هذه الأرض. وبما أن حب وعطاء الأم تجاه أسرتها عظيم لا ينكره أحد فمن الواجب عدم التكبر عن حب الأم وخدمتها خدمة خالصة، وتذكروا ما قاله رسول المحبة- صلى الله عليه وسلم- (الجنة تحت أقدام الأمهات).
أما حب الزوجة فقد حث عليه الرسول الكريم المحب الذي دعا الرجل إلى أن يشعر زوجته بالحب ليثبت في قلبها، بقوله (قول الرجل للمرأة: إني أحبك، لا يذهب من قلبها أبداً)، وحب الزوج لزوجته يدفعه لأن يغدق عليها من خيره، ويبالغ في إدخال السعادة على قلبها في كل وقت ولحظة.
وحب الأرحام واجب، وهو حب إخوانك وأخواتك، أي علاقة الأشقاء وتضحياتهم لبعضهم بعضا، وأقاربك من عم وعمة وخال وخالة وأولادهم وكل من تربطك بهم صلة قرابة تحافظ فيه على العلاقة العائلية المتزنة باستمرار دائم.
المفضلات