عبدالمحسن هلال
على مدار الأربعين عاما الماضية، لا يكاد يحل شهر يونيو من كل عام حتى تنصب وسائل الإعلام العربية، وأحيانا العالمية، حبال المشانق وساحات الإعدام لما حدث ومن أحدثه، بعضها يتلطف فيعيد المحاكمات والمناظرات في محاولات متجددة لجلد الذات، يدعونها زورا وبهتانا نقدا للذات إذ هي غالبا ما تنتهي إلى الهدم والتحطيم. شهر يونيو هذا العام كان مميزا، حفل بالطبع بالمعتاد من لطم الخدود والبكائيات والمناحات، خصوصا أنه سبقه بأسابيع قلائل ذكرى مرور 59 عاما على نكبة العام 48، التي هي أم النكبات لابنتها غير الشرعية «نكسة» يونيو العام67 وما تلاهما من مآسٍ وآلام. كل هذا يتم تحت مسمى نقد النظام العربي، إلا أنه يمتد ليشمل هدم الكيان العربي والإنسان العربي. ولست هنا بصدد الدفاع عن النظام العربي، فهو يخذل كل من يدافع عنه، ولكن لأسأل عن جدوى حفل الزار العربي السنوي هذا في الإعلام العربي، وإذا حلمتم على حتى نهاية المقال ستجدون أنني أرى ضرره وزيفه لا جدواه ونفعه، وما هو إلا المرض العربي القديم بالتعلق بالماضي ونستولوجياه العقيمة. لنتفق بداية عليَّ جملة حقائق أولاها أن الصراع هو بين شعبين على أرض مقدسة، ثانيتها أنه برغم كل النكبات والنكسات مازال كذلك لم يحسم بعد. حقيقة أخرى، أن لكل طرف من أطراف النزاع أهدافاً استراتيجية، صحيح أن أهدافا إستراتيجية إسرائيلية كثيرة تحققت مقابل تراجع عربي كبير، ولكن ذكروني بهذه الأهداف، هدف إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات تراجع ثم سحب من التداول حتى داخل إسرائيل، هدف جعل إسرائيل قوة ردع تهاوى مع استمرار المقاومة العربية، هدف قيام شرق أوسط كبير أو صغير بقيادة إسرائيل جعل إسرائيل عضواً طبيعياً
في المنطقة العربية هو
حلم وردي مستحيل التحقيق
لم يتحقق، هدف كسر الإرادة العربية صار بعيد المنال، هدف جعل إسرائيل عضواً طبيعياً في المنطقة العربية أصبح حلما ورديا مستحيل التحقيق، لم يبق إلا الاحتلال وهزيمة الجيوش العربية، وحتى هذه فيها سؤال. أما الهزيمة فظاهريا نعم، هزمت إسرائيل جيوشا عربية نظامية، وما زالت قادرة على كسر شوكتها في كل حرب تخوضها، فلديها معين لا ينضب من الإمداد العسكري الذي لم يفلح العرب في كسر احتكاراته، وعلينا أن نتذكر هنا التعهد الأمريكي الدائم لإسرائيل منذ قيامها بجعلها قوة عسكرية تفوق قوة الدول العربية مجتمعة، وأن نتذكر أيضا الجسور الجوية العسكرية بين واشنطن وتل أبيب في كل حرب عربية ضد إسرائيل، بل وجود طواقم عسكرية أمريكية من المتبرعين ومتقاعدي الجيش الأمريكي تعمل ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي، وازدواج الجنسية أمر معترف به في أمريكا، بيد أنه في حالة إسرائيل صار ازدواج ولاء، والولاء الأول لإسرائيل لأسباب سياسة دينية مصالحية. هذا ليس تبريرا لهزيمة الجيوش العربية فالعار يلحقها، إلا أن معظم الجيوش التي هزمت عادت وانتصبت ومازالت إسرائيل تعمل لها ألف حساب، خصوصا بعد انقلاب عقيدة الجيش الإسرائيلي، نقل المعركة إلى أرض العدو، مع استخدام الصواريخ بعيدة المدى، رأينا ذلك في حرب لبنان الصيف الماضي، ونراه كل يوم مع المقاومة الفلسطينية. أما الاحتلال فقد صار عبئا على إسرائيل تريد التخلص منه ولكنها لا تعرف كيف، ليس أنا من يقول ذلك بل إسرائيليون يعترفون به في صحافتها كل يوم، ميرون رابوبور من جريدة هآرتس، كتب في اللوموند دبلوماتيك مقالا طويلا عن كيف غير الاحتلال إسرائيل، خالصا إلى القول: «تبدو البلاد ضحية الوحش الذي خلقته بيدها خلال أربعين عاما»، ومنتهيا إلى أن «الاحتلال شل المجتمع الإسرائيلي إلى درجة أن قادته ما عادوا يملكون الشجاعة للعمل على حل فعلي للصراع، فقد اجتاح الاحتلال إسرائيل في نهاية المطاف». تريدون رأيا آخر وهي تترى،، هاكم قول رئيس الكنيست السابق، افراهام بورج، هل من يزايد عليه، فقد وصف بالأمس إسرائيل بأنها معزل صهيوني يحمل بذور زواله في ذاته، هل منكم من يتذكر قولا عربيا مثل هذا قيل في الستينات. ما زال الاحتلال ينخر في عظام الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي، أما المستوطنات المنتشرة لتقطيع أوصال الضفة والقطاع فقد صارت عبئا مضافا على الجيش الإسرائيلي العاجز عن حمايتها، وصار يلهث لمقايضتها بقطع من أرض الميعاد المقدسة لديه، وصار جدار إسرائيل الجديد مبكاها الجديد.
ما أود الانتهاء إليه ليس القول إننا بأفضل حال، فزرع إسرائيل في القلب منا كان ومازال امتحانا لنا، ولكنا ما زلنا نقاوم، أخطاؤنا كثيرة وإسرافنا وتفريطنا تجاه القضية الأم كبير، لكنا ما زلنا على الخارطة، لسنا الهنود الحمر ولم نوقع وثائق الاستسلام بعد كما فعلت اليابان وألمانيا. ما زلنا برغم كل الكوارث في المربع رقم واحد، وهذا إذا قيس بحجم التأييد العالمي الأعمي لإسرائيل، يعد إنجازا. فإن كان قد أصابنا قرح فقد مس القوم قرح مثله، وهم يألمون كما نألم ولكنا نرجو من الله ما لا يرجون والأيام دول. فلم الشعور باليأس والإحباط وقد بشرنا بالنصر النهائي من الرسول الذي لا ينطق عن الهوى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، لم الشعور بالهوان والدونية، والحق سبحانه وتعالى يقول: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين». فاللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين.
المفضلات