إلى متى تدفع حواء وحدها ثمن الخطيئة؟*
--------------------------------------------------------------------------------
تناقلت وسائل الإعلام قبل فترة خبر السيدة الباكستانية "مختاران ماي" البالغة من العمر 33 عاما والتي كانت ضحية اغتصاب جماعي، وقد رأينا السيدة "ماي" تقف أمام عدسات المصورين وتبوح بسرها الذي تكتمت عليه ثلاث سنوات؛ قائلة: إن 13 رجلا قد اغتصبوها على التوالي بناء على أوامر مجلس شيوخ القرية؛ لأن شقيقها كان على علاقة غرامية مع فتاة من قبيلة ذات مكانة أعلى، ولم تُكشف قصة "ماي" إلا عندما قررت بنفسها وبمساعدة المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وخاصة عن النساء أن تخرج عن صمتها وترفع قضيتها إلى المحكمة العليا التي أمرت بإعادة اعتقال الرجال المتهمين بالاشتراك في اغتصابها، ولم تكن "ماي" وقتها سوى ضحية نزوات أخيها وتقاليد قريتها.
حوادث متكررة
ليست السيدة "ماي" هي الوحيدة في البلاد العربية والإسلامية التي تبوء بالإثم وتنفرد به في القبيلة أو العشيرة أو المجتمع كله سواء كانت مذنبة أم لا، وآخر ما سمعناه في هذا الموضوع قصة امرأة تقبع في سجن منطقة عسير منذ عدة سنوات بسبب جرم قتل ارتكبته، وقد كانت هذه السيدة متزوجة وتعيش حياة سعيدة مع زوجها وأولادها، ثم عكر صفو حياتها شخص بدأ يطاردها ويهددها بإفشاء سر علاقته السابقة بها، ومع أنه لم تكن بينهما أية علاقة من أي نوع، لكن الرجل كانت شخصيته طاغية فيما يبدو، فأصبح شبحه يطل عليها في كل حين وآن، فما كان منها -وتحت ضغط الخوف من إساءته لها- إلا أن استدرجته إلى منزلها بغياب زوجها، وقتلته بسلاح بدائي وجدته في منزلها؛ هكذا وردت القصة في إحدى الصحف، ولكنها وردت بشكل مختلف في صحيفة أخرى، وحقيقة الأمر لا يعلمها إلا الله، لكن ما نعلمه حقا أن هذه السيدة نادمة على فعلها، وكل من تعامل معها في السجن يشهد لها بأخلاقها الحسنة وحفظها للقرآن وتعليمه للسجينات، وهي من جهتها عميقة الإيمان بالله؛ إذ تأمل أن تنال العفو من أهل الدم ابتغاء مرضاته سبحانه.
نحن بدورنا نأمل ألا تهز هذه القصة الضمير الحي فحسب؛ بل أن تهز جمعية حقوق الإنسان السعودية لفعل شيء لإنقاذ هذه السيدة التي يبدو أن من حقها أن تعود لبيتها وزوجها وأولادها، خاصة أنها أظهرت ندمها وتوبتها، وذكرت أنها لم تتخيل يوما من الأيام أنها ستكون قاتلة، فلماذا تُسأل هذه السيدة عن هذا الذنب ولا تُسأل الثقافة التي أنجبتها وأنجبت من قتلته أيضا؟ وهل نحن حقا مسلمون إذا تعاملنا مع القضية بتبسيط تام كأنها قضية قتل فقط دون النظر إليها من جميع الزوايا؟.
أسطورة الغواية
بعيدا عن قصة هذه السيدة، لنفترض أننا أمام فتاة كان بينها وبين شاب علاقة بريئة وانتهت هذه العلاقة ومضى كل منهما في حال سبيله، وتزوجت تلك الفتاة وأصبح لديها زوج تحبه وأولاد ترعاهم، فإن هذه الفتاة كأي أنثى في مجتمعنا العربي المسلم المأزوم المنفصم على نفسه المتنكر لِقيَمِه ستبقى في قرارة نفسها تخشى أن يقحم الماضي رأسه داخل حياتها الزوجية فيكشف لزوجها ما أخفته عنه، وهو ما يحصل كثيرا؛ إذ يرى الشاب أن من حقه التنكيد على من تركته -أو من تركها- لا فرق؛ لأنه ذكرٌ وغير مسئول أمام المجتمع، أما هي فقد خُلقت أنثى أي متلطخة بالإثم منذ بداية الخلق، أوَ ليست هي ابنة حواء التي أغوت آدم وأطعمته التفاحة فأخرجته من الجنة؟!.
ومع أن القرآن أوضح لنا أن الخطأ وقع من آدم وحواء معا؛ بل إن بعض الآيات عَزَت الذنب لآدم وحده: {وعصى آدم ربه فغوى}، فإن ثقافتنا تعج بالمعتقد التوراتي الوارد في الإصحاح الثالث من سفر التكوين، وفيه قول على لسان آدم يدافع به عن نفسه: (المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلتُ)؛ لذلك على كل بنات حواء أن يدفعن ثمن أخطاء كل أبناء آدم؛ لأن الذكَر بريء ما لم تدخل حياته أنثى. وهذا عبد الله ثابت الشاعر والكاتب يلخص هذه النظرية بقوله: (أمي تَنْحتُ تمثالي عشرين سنة، وامرأة أخرى تهدمه في ثانية). ومن حقه علينا أن نشكره لأنه أرجع فضل تكوينه إلى امرأة، ولكننا يجب أن ننبهه أن تهدم التمثال في ثانية إما سببه عدم إتقان النحات لعمله جيدا أو أن طينة التمثال فيها بعض الموروث الذكوري الذي يلقي مسئولية الهدم على المرأة وحدها، وإلا فإنه يحق لنا السؤال: كيف تمتلك هذه الضعيفة قدرة الهدم في ضربة واحدة؟!.
ثقافة الفهم الخاطئ
لا أقصد هنا نقد مقولة "عبد الله ثابت" فهي بلا شك عبارة تهويمية إبداعية لكنها دالة أيضا على رسوخ ثقافتنا في تبرئة الرجل وتأثيم المرأة، وهي ثقافة (الرجل لا يعيبه إلا جيبه) وثقافة الفهم الخاطئ لقول من لا ينطق عن الهوى: (إنكن لأنتن صُويحبات يوسف). ولتصحيح هذا الفهم يجب أن ندرك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قالها بعد محاولة عائشة رضي الله عنها ثنيه- وهو مريض - عن عزمه على تولية والدها أبي بكر إمامة الناس في الصلاة، فلما لم تفلح أوحت إلى حفصة رضي الله عنها أن تتدخل، فوصفهما الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك العبارة التي ذهبت مثلا؛ ولا يحق لأحد أن يعترض على التمثل بكلام خير الخلق، ولكن من حقنا الاعتراض على الاستشهاد ببعض الأحاديث وإخفاء أو إهمال بعضها الآخر.
ومن الأحاديث التي لا يعرفها كثيرون أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها ثم مر عليها قوم ذو عدة فاستغاثت بهم فأدركوا الذي استغاثت به وسبقهم الآخر فذهب فجاءوا به يقودونه إليها فقال: إنما أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر؛ فأتوا به رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخبرته أنه وقع عليها وأخبره القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني؛ قالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه) فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني أنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وقع عليها والذي أجابها والمرأة فقال: أما أنت فقد غفر الله لك وقال للذي أجابها قولا حسنا، فقال عمر رضي الله عنه: ارجم الذي اعترف بالزنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا لأنه قد تاب إلى الله توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم) (سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2/ص601/ح900).
زمن النبوة
هذا الحديث يظهر لنا أن زمن النبوة لم يكن زمن المدينة الفاضلة كما يظن بعضنا، بل كانت تحدث فيه كبائر أحيانا؛ لكن أهم ما نستنبطه من هذا الحديث بالنسبة لموضوعنا أن المرأة لم تتحمل وزر جريمة الاغتصاب بل استغاثت أولا ولم تشعر بالعار مما حصل معها ثانيا ورفعت شكواها إلى أعلى سلطة في الدولة ثالثا؛ والآن لنا أن نقارن هذا بما حصل مع المرأة الباكستانية التي تحملت عنف ومرارة ومهانة الاغتصاب 3 أعوام كاملة، ومنهن من تحمل عارها إلى الأبد، ولنا أن نتخيل لو أن أي فتاة تعرفت على شاب قبل زواجها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الذي كان سيحصل؟
الاحتمال الأول: إذا كانت العلاقة بينهما علاقة حب بريئة، وعضلها ولي أمرها عن الزواج به لأنه ليس كفؤا لها أو لأنه لا يملك مهرا يضفي الغنى على والدها أو لأنه ليس من قبيلتها أو لأي سبب آخر فلها أن ترفض الزواج بغير من تحب، وهذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما من أن رجلا جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله في حجري يتيمة وهي تُنكح إلي، وقد خطبها موسر ومعدم، ونحن نحب الموسر وهي تحب المعدم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لم يُر للمتحابين مثل النكاح).
والاحتمال الثاني: أن يكون ما بينهما علاقة أشد حميمية ثم لم يتزوجا لأي سبب كان، فهل كان الرجل في العهد النبوي يستطيع أن يهدد المرأة إذا لم تستجب لمطالبه بكشف ما كان بينهما من أسرار؟ بالطبع لا لأنه يعرف أن الحكم الواقع عليها -بالجلد أو بالرجم- سيقع عليه أيضا، فكلاهما مسئول أمام الله عن أفعاله، ولم نسمع عن واقعة مثل واقعة السيدة السعودية إلا عندما آثرت البلاد العربية أن تتدثر بعاداتها الجاهلية وفضل ثلة من الفقهاء "المشرعين" أن يفهموا الدين حسب نظرتهم الضيقة للمرأة من أنها سبب كل آفة ومصدر كل بلية؛ ومن ذا الذي ينكر أن للفقه التأثير الأكبر على ثقافة المجتمعات الإسلامية؟
الحديث السابق عن اغتصاب امرأة في العهد النبوي ورد في بعض كتب الحديث تحت باب "سقوط الحدود بالتوبة" وفيه رحمة رسول الله بمن أتى حدا كقوله عن ماعز رضي الله عنه: (ألا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه؟ يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك) وقاسه بعضهم على حد المحارب الذي يسقط إن تاب قبل أن يُقدر عليه؛ وهذه السيدة السعودية ارتكبت فعلتها تحت ضغط تهديدات المقتول وتابت إلى ربها، أفليس هذا كفيلا بالنظر إلى قضيتها بعين الرحمة، خاصة من أجل أطفالها؟ وهل يتكرم أهل المقتول بالعفو عنها أو بالتراضي مع أهلها لا سيما إذا تدخل أهل الخير وأصحاب السمو؟ والسؤال الخاتم: ألم يأنِ للمجتمعات المسلمة أن تراجع ثقافتها تجاه المرأة كي لا تبقى هذه المجتمعات صورة "نيجاتيف" بشعة ومخيفة عن المجتمع المسلم الحقيقي؟.
اشهد الله انني قد سامحت كل من اغتابني
راجيا عفوه الكريم
المفضلات