د. سعد بن عبد القادر القويعي





لا يشك عاقل أنّ أحوال المسلمين في العصر الذي نعيشه قد تغيرت كثيراً وبصورة هائلة، فالعلم يتطوّر، والاكتشافات المذهلة في الطب, الهندسة وعلوم الذرّة والطاقة، وغيرها من العلوم التجريبية في تقدم مذهل، ومن ذلك: علوم الفضاء والفلك، ومعرفة حقائق الكون ودقائقه، وحركة الأفلاك

والنجوم، ونتائجها بلا شك قطيعة، وهو ما أشار إليه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - عند شرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ...)، فقال - رحمه الله -: (الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللاً بعلّة منصوصة، وهي: أنّ الأمة أمية لا تكتب ولا تحسب، والعلّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. فإذا خرجت الأمة عن أميتها وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس خاصتهم وعامتهم أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب).

وكنت قد بيّنت في مقال سابق أقوال أهل العلم - رحمهم الله - عن احتمالات رؤية ما يشبه الهلال وهو ليس هلالاً، وذكرت أنّ أقرب هذه الاحتمالات، هو: رؤية الهلال قبل ولادته، وهي رؤية انعكاسية في الأفق خلف الشمس، وليست رؤية حقيقية، لأنّ الهلال أمام الشمس لم يلد بعد، وقد فسّر الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع - حفظه الله - هذه الحالة، بما يلي: (من المعلوم للجميع بالمشاهدة أنّ الهلال يكون ناقص الاستدارة ومقوساً حتى ليلة تمام القمر يوم خمسة عشر، وفي ليالي هذه الأيام أي في النصف الأول من الشهر يكون نقص الاستدارة - فتحة القوس - من الشرق. وفي النصف الثاني من الشهر ينعكس الأمر فتكون - فتحة التقويس - إلى الغرب وتكون استدارة التقويس إلى الشرق، ويمكن استخدام هذه الظاهرة الكونية في معرفة الغرب والشرق إذا كان الإنسان في البر في الليل واختلف عليه تعيين القبلة للصلاة. فبمعرفته الجهة يستطيع معرفة القبلة. فمتى وجدت حالة رؤية الهلال قبل ولادته فهذه حالة انعكاس أفقي للهلال وهو متقدم على الشمس ولهذا سيكون وضع الهلال بالنسبة للتقويس وفتحة التقويس هو وضعه في النصف الأخير من الشهر ... وتعليل هذه الظاهرة أن تقويس القمر دائماً يكون إلى قربه من الشمس سواء أكان أول الشهر أو آخره. ولو وجدت مناقشة لمدعي الرؤية ومنها أين قرناه الهلال؟ هل هما إلى الشرق أم إلى الغرب؟ لظهرت حقيقة هذه الرؤية هل هي انعكاس أم حقيقة؟ فإن كان قرناه إلى الشرق فهي رؤية حقيقة، وإن كان قرناه إلى الغرب فهي رؤية انعكاسية، وهذا جواب عن هذا الإيراد وتفسير لهذه الظاهرة من أنّ الهلال قد يرى من بعد غروب الشمس والحال أنه لم يلد بعد فهذه رؤية سرابية لا رؤية حقيقية، والله أعلم).

إنّ اعتبار عدالة الشاهد شرط في قبول الشهادة، هذا صحيح. لكن لا بد أن تكون هذه الشهادة منفكة عما يكذبها حساً وعقلاً، حتى يتم قبول الشهادة. فإذا قرر علماء الفلك، مثلاً: أنّ القمر يغيب قبل الشمس، وجاء من يدعي الرؤية فيجب ردها، لأنّ الشرط الثاني غير متحقق، وهو انفكاكها عما يكذبها حساً وعقلاً.

وحول هذا المعنى - أي إثبات دخول الشهر وخروجه على اعتبار الحساب في حال نفي الحساب رؤية الهلال لغروبه قبل الشمس - يؤكد جمع من أهل العلم - رحمهم الله - ذلك. قال الشربيني - رحمه الله -: (لو شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان، واقتضى الحساب عدم إمكان رؤيته. قال السبكي: لا تقبل هذه الشهادة، لأنّ الحساب قطعي والشهادة ظنية، والظني لا يعارض القطعي)، وقال تقي الدين السبكي - رحمه الله -: (إنّ الحساب إذا دل بمقدمات قطعية على عدم إمكان رؤية الهلال لم يقبل فيه شهادة الشهود، وتحمل على الكذب أو الخطأ ... لأنّ الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلاً عن أن يقدم عليه، والبيِّنة شرطها أن تكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً)، وقال الشيخ مصطفى الزرقاء: (فإذا ورد النص معللاً بعلّة جاءت معه من مصدره، فإنّ الأمر يختلف ويكون للعلّة تأثيرها فيفهم النص وارتباط الحكم وجوداً وعدماً في التطبيق). وقال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: (قد كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي منذ أكثر من عشر سنين، حين كان رئيس المحكمة الشرعية رأي في رد شهادة الشهود إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية، كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي. وأثار رأيه هذا جدلاً شديداً، وكان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه. ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب، وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به. وما كان قول هذا بدعاً من الأقوال أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين، فإنّ هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم).

وما يشاع عند بعض الناس أنّ علماء الفلك مختلفون فيما بينهم، فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، فعلماء الفلك مجمعون على تحديد وقت اقتران القمر بالشمس بالنسبة للرائي من الأرض، كما أنهم مجمعون على تحديد وقت ولادة الهلال، كما أنهم لا يختلفون في معرفة غروب الشمس قبل القمر أو غروب القمر قبل الشمس بالساعة والدقيقة في أي مكان من الأرض. كما بيَّن ذلك الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع - حفظه الله - حيث أوضح: (أنّ الاختلاف بين علماء الفلك في أمرين اثنين فقط، أحدهما: في حال الاتفاق على ولادة الهلال قبل غروب الشمس، وغروب الشمس قبل القمر. فإنّ علماء الفلك مختلفون في إمكان الرؤية من حيث اختلافهم في تقدير درجة الزاوية الأفقية للهلال، ومن حيث درجة بعده عن الشمس، ومن حيث الزمن بين الولادة ووقت الترائي، وهذا الاختلاف لا تعلق له بولادة الهلال، ولا بغروب الشمس قبل القمر أو بعده. والذي يظهر لي صرف النظر عن مسألة إمكان الرؤية، فطالما أنّ الهلال مولود وأنّ الشمس غربت قبل، فيجب الأخذ بأي رؤية تثبت، سواء أكانت رؤية بالعين المجرّدة، أم كانت رؤية بواسطة المكبر، لأنها رؤية ممكنة منفكة عما يكذبها.

الثاني : الاختلاف في تعيين الوقت الذي يبدأ فيه ليل أول يوم من الشهر أو ينتهي به ليل آخر يوم من الشهر. توضيح ذلك: إنّ غالب الفلكيين في العالم يعتبرون المقياس التوقيتي ساعة جرينتش، فيقولون: إذا ولد الهلال قبل الساعة الثانية عشرة مساءً بتوقيت جرينتش، فإنّ هذه الليلة هي ليلة أول يوم من الشهر التالي. وإذا كانت ولادة الهلال بعد الثانية عشرة مساءً بتوقيت جرينتش، فإنّ هذه الليلة هي ليلة آخر يوم من الشهر الحالي. والمملكة - حرسها الله - أصدرت قراراً من مجلس الوزراء باعتبار مكة المكرمة مركز التوقيت. فمتى غربت الشمس قبل غروب القمر، فإنّ الليلة بعد غروبه تعتبر ليلة أول يوم من الشهر التالي. وإن غرب القمر قبل الشمس فإنّ الليلة بعد غروب الشمس تعتبر ليلة آخر يوم من الشهر. ولا شك أنّ قرار مجلس الوزراء قرار متقيد بالمقتضى الشرعي بأنّ أول اليوم ليلته. وقد أخذت بهذا القرار لجنة تقويم أم القرى في جميع تقاويمها لكل سنة. ومن خلال تطبيق هذا الاصطلاح من الطرفين المختلفين في تحديد الوقت، يتضح وجه الاختلاف، وأنه لا علاقة له بتحديد وقت الاقتران، ولا وقت الولادة ولا الاتفاق على تحديد وقت غروب القمر ووقت غروب الشمس من مكان الترائي).

أما ما يذكر عن الأخ محمد الروضان الشايعي بأنه فلكي، ودائماً يخالف علماء الفلك في دخول شهر رمضان وخروجه، أو في دخول شهر ذي الحجة، فالأمر ليس كذلك، فهو باحث تربوي ليس من علماء الفلك وأهله. وقد كتب رئيس قسم الفلك في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية الدكتور زكي المصطفى مقالاً نشر في الصحف المحلية قبل عام أوضح فيه: أنّ محمد الروضان الشايعي ليس من علماء الفلك، وطلب منه تقديم معادلاته الرياضية وحساباته الفلكية إلى مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية للتحقق منها.

كم أتمنى أن يتفق أهل الحل والعقد في بلادنا لدراسة هذه المسألة المهمة، وإيجاد الحلول لردم الفجوة بين علماء الشرع وعلماء الفلك، والاعتراف بعلم الفلك ونظرياته ونتائجه وبين النصوص الشرعية، من أجل الاعتداد بالرؤية الشرعية، لا سيما تلك الشهور المرتبطة بالعبادات، كشهر رمضان وذي الحجة ومحرم وغيرها من الشهور .. فهل نحن فاعلون؟