سوق الليل عادت شمسك الذهب
سرحت بخاطري بعيدا وأنا أتجول في سوق الليل بينبع وعادت بي سوانح الذكريات إلى السنين الخوالي عندما كان هذا السوق يعج بالحركة والحياة ويرتاده ممارسي الصيد اليومي ومكابدي أهوال البحر للبحث عن رزق غير مضمون في تجارة تصدير المنتجات الزراعية التي تزخر بها ينبع من تمر وحناء وسدر وسمن وعسل واستخراج ما يجود به البحر من سمك أو صدف أو محار أو لؤلؤ وبيعه في أسواق الدول المجاورة مصر والسودان واليمن والصومال واستيراد ماتجود به هذه البلدان من خيرات ثم الأوبة إلى ديارهم




كان سوق الليل حينها هو الوجهة والهدف في رحلتي الذهاب والإياب وكان هو السوق الوحيد الذي يستمر العمل فيه جزءا من النهار وطرفا من الليل . وكان هو الملهم للشعراء .. يقول الشاعر حسن عبد الرحيم القفطي الذي عاش هنا قبل مائتي عام

أهوى الوقوف لدى باب الحديد لكي ..... أرى مصابيح سوق الليل كالشهب

فهو السوق الوحيد الذي يضاء بالمصابيح في ذلك الزمن الطيب





هذا الماضي الجميل أعقبته حقبة من السنوات العجاف تجاوزت خمسين عاما هجر فيها أهالي ينبع ينبع لشح الموارد وقلة مصادر الدخل وتفرقوا في مختلف الأماكن يبحثون عن مصدر للرزق

خمسون عاما لم يكن يتخيل أكثر المتفائلين أن الحياة ستعود إلى هذا الجزء الغالي من مملكتنا الحبيبة قبل أن تمتد إليه يد سمو الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز الرئيس العام لهيئة السياحة والآثار والتراث الوطني فيأمر بإعادة البناء ومواصلة الإعمار فيبني ما تهدم من منازله ويرمم ما اندثر من معالمه ويعيد سوق الليل إلى سابق عهده

عاد السوق ولكن الأهم هو أن تعود إليه الحركة والحياة والنشاط السكاني

ومن الصعوبة بمكان أن تقوم بتشغيل أكثر من خمسين محلا وأن تدفع التجار الذين يمارسون بيعهم وشراءهم في الأماكن التي اختاروها بأمان أن يغامروا بتجارتهم في منطقة خالية جدواها الاقتصادية غير متحققة





سمو الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز الرئيس العام لهيئة السياحة والتراث الوطني



ولكن هذا أيضا لم يغب عن تفكير الأمير فأصدر أمره إلى فرع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمحافظة ينبع بإبرام اتفاقية تعاون لتشغيل السوق مع مركز جنى

ومركز «جنى» هو مشروع اقتصادي اجتماعي يقدم خدمات الإقراض المتناهي الصغر للنساء دون اللجوء إلى الكفالات التقليدية، بل يعتمد على مبدأ الضمان الجماعي للنساء فيما بينهن، وبنفس الوقت يرسخ ثقافة العمل ومبدأ الاعتماد على الذات ويوفر فرص عمل ذاتية للنساء بالمجتمع، ومن آثار هذا المشروع هو الحد من ظاهرتي الفقر والبطالة بالمجتمع، وتمكين النساء اجتماعيًا واقتصاديًا من خلال المشروعات المدرة للدخل.



وهذا ما تحقق بالفعل ..






محمود الشامي, الرئيس التنفيذي لمركز بناء الأسر المنتجة «جنى» مع الأستاذ سامر العنيني مدير مكتب سياحة ينبع بعد توقيع اتفاقية تشغيل سوق الليل





دارت هذه الخواطر في ذهني وأنا أتجول في سوق الليل أمس وأشاهد هؤلاء النسوة يمارسن البيع والشراء في هذا السوق بكل حرفية ومهارة واقتدار وأمان .. أين كن هؤلاء النسوة قبل أن يحتضنهن مركز جنى وقبل أن يهيئ لهن هذا المكان الآمن ؟ كيف كانت حياتهن ؟ وكيف هي أحوال معيشتهن مع اعترافنا الكامل أن الله عز وجل هو المتكفل برزق العباد وأمن البلاد إلا أن هذا الإقبال على إشغال السوق بهذه الكثافة يدل على أن هناك حاجة وهناك فرص عمل قد تحققت حصل عليها بعضهن والبعض الآخر مازال في الانتظار














ليس هذا فقط مايقدمه لهن مركز جنى ولكنه قبل ذلك قدم قرضا بدون فوائد لكل مستفيدة من هؤلاء النسوة . وقدم محلا متكاملا مضاءا ومكيفا بأجر رمزي لا يكاد يذكر 2000 ريال فقط في العام لايساوي ما يستهلكه كل محل من الماء والكهرباء والخدمات.. وقدم مجموعة من العمال لتنظيف المحلات والطرقات ودورات المياه ومساعدة البائعات في فتح المحلات وإغلاقها ونقل ما يحتجن إليه من سلع ومساعدتهن في تجهيزها وعرضها مجانا . وقدم إدارة واعية حكيمة تدير شؤون السوق وتساعد العاملات فيه في كل ما يعن لهن من أمور



وحين الحديث عن الإدارة فأننا لا يمكن أن نغفل دور مديرة مركز جنى بينبع ابنة ينبع البارة الأستاذة مريم ناجي الغفارى هذه المسؤولة التي تقف خلف كل هذه النجاحات بدءا من إجراءات التقدم للقروض ودراسة حال المتقدمات لطلب القروض ومدى أحقيتهن وتطبيق الشروط المطلوبة عليهن وزيارة المستفيدات في منازلهن ومتابعة قدرتهن على الالتزام بسداد القروض ثم إنجاز معاملاتهن وبعد كل هذا تأمين المكان الملائم لهن لممارسة الأعمال التي تضمن لهن سبل العيش الكريمة كما هو حاصل في سوق الليل وهي لم تكتف بهذا وإنما خصصت لها مكتبا لمتابعة العمل الميداني في سوق الليل قريبا من العاملات خلاف مكتبها الرئيس في مكتب مركز جنى في ينبع مول التجاري .وهو ما يستغرق منها جل ساعات النهار وجزءا من الليل .

إنها صورة مشرقة للمرأة السعودية العاملة التي تضحي بوقتها و تكرس جهدها لخدمة وطنها ومصلحة مواطنيها



والحديث عن مريم الغفاري يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الطرف الآخر في معادلة النجاح مديرة السوق الأستاذة هبة عطية الحمادي هذه النشطة الدؤوبة في متابعة السوق وتفقد احتياجاته ومتابعة العاملات فيه ومراقبة كافة التحركات في مختلف الاتجاهات وهي أخت للعاملات لا يستغنين عن مشورتها ويسعدن بملاحظاتها ويرجعن إليها في كل صغيرة وكبيرة ولا شك أنها جديرة بهذه الثقة وتعيد إلى الأذهان سيرة الصحابية الجليلة الشفاء بنت عبد الله التي روي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوكل إليها أمر إدارة السوق

هذا غيض من فيض وكل ما سبق يستحق أن يذكر ويشكر .ولا يشكر الله من لا يشكر الناس




وحتى لا يقال أننا نكيل المديح جزافا فإننا نقدم لإدارة جنى بعض الهنات الهينات التي رصدناها عن كثب ترسم بعض علامات الاستفهام ولا تقلل من الجهود المبذولة .



أولا

يقع السوق في مكان منزو عن الأنظار لا يظهر منه إلا باب يطل على الساحة التاريخية وباب آخر من الجهة الشرقية ولن يهتدي إليه إلا شخص يعرفه من قبل . وقد قال لي أحدهم أنه زار المنطقة بصحبة العائلة خمس مرات دون أن يعلم أن فيها سوقا بهذا الجمال والتنظيم والتخصص وأنه لم يدخله إلا اليوم بعد أن عادت أسرته إلى الطائف دون أن تراه .. ولذلك لابد من وضح لوحة كبيرة وجاذبة على بوابة مدخل السوق المطلة على الساحة التاريخية والبوابة الأخرى المطلة على الجهة الشرقية

ثانيا

توجد في السوق دورة مياه تتكون من حمامين فقط أحدهما مغلق في معظم الأحيان . مما لايتناسب مع سوق بهذا الحجم من عدد البائعات وهذه الكثرة من أعداد المتسوقين والمتسوقات ولابد من إعادة النظر في زيادة عدد الحمامات وصنابير المياه وتقوية تدفقها وتزويدها بعدد من عمال وعاملات النظافة



ثالثا

يجب التفكير بإنشاء مصلى للنساء في داخل السوق على وجه السرعة لأنني لاحظت أن أغلب النساء يصلين في داخل محلاتهن



رابعا

طبيعة التسوق الحديث تعتمد على أن يدخل الزبون ويختار من السلع ما يشاء ثم يذهب إلى البائع ويدفع الثمن . أما قديما فإن البائع يحضر له السلعة التي يطلبها أو يشير إليها دون أن يدلف إلى الداخل لوجود دكة أو مصطبة تحول بينه وبين ذلك وهذه هي عادتهم المتبعة في الشراء حينذاك .. وقد حرصت هيئة السياحة عند الترميم على أن تبقي هذه المصطبة موجودة كما هي حفاظا على التراث وتجسيدا لصورة الماضي ولكنني لاحظت أن المتسوقين اليوم يقفزون على هذه الدكة ويدخلون إلى المحل كالمعتاد ولذلك لابد من إزالة هذه المصاطب ومساواة منسوب أرضية السوق بأرضية المحلات أو تعويد المتسوقين على اتباع الأسلوب القديم فهذا سوق تراثي وكل مايحدث فيه هو اجترار للماضي بكل جزئياته



خامسا

الحريق الذي نشب أمس في أحد مطاعم المنطقة التاريخية يستدعي إنشاء مركز للدفاع المدني في المنطقة وليس ذلك بالأمر الصعب لوجود مقر لإدارة الدفاع المدني على بعد أمتار قليلة من المنطقة يمكن أن تلحق به فرقة للدفاع المدني



وفي الختام أجدني مدفوعا إلى التنويه إلى ما يقوم به مدير مكتب السياحة بينبع الأستاذ سامر علي العنيني من جهود في سبيل تطوير السياحة في محافظة ينبع فهذا الرجل تشعر أنه ميسر للسياحة وأن السياحة ميسرة له يتحدث عنها بإلمام تام ويتصرف في أمورها بعشق بالغ ولديه من المشاريع والأفكار والطموحات مايترجم تطلعات المسؤولين في الوصول إلى غد مشرق ومستقبل مجيد لهذه المحافظة .




وكم كنت أتمنى أن يعيد سعادة محافظ ينبع المهندس مساعد السليم وهو العاشق الأول للسياحة والمهتم الأكبر بالاستثمار أتمنى أن يعيد تفعيل دور لجنة التنمية السياحية التي كان يرأسها طيب الذكر الأستاذ يوسف الوهيب ( لاأدري إن كانت ماتزال موجودة أم أنها ذهبت بذهاب رئيسها ) ويسندها إلى الأستاذ سامر و الأستاذ عواد محمود الصبحي متضامنين فهذان الرجلان هما المعقود عليهما الأمل في تطوير صناعة السياحة وتفعيل أدواتها واستمرار حراكها .. الأستاذ سامر بحكم تسنمه ذروة السياحة والتراث الوطني بينبع وما حققه لها وفيها من نجاحات والأستاذ عواد بحكم رئاسته للجمعية الوطنية للمحافظة على التراث بينبع وبحكم عشقه ووقوفه منافحا ومدافعا ومشاركا وحاثا على كل أمر يخص التراث في ينبع منذ أكثر من عشرين عاما حيث كان له الفضل الأول واليد الطولى في إعادة الإعمار لهذه المنطقة ولفت الأنظار إليها وقد استطاع بجهود ذاتية رغم شح الموارد وقلة الدعم أن يعيد بناء منزل متكامل في حي الصور ساهم بشكل كبير في إعادة تشكيل نظرة الناس إلى هذه المنطقة وإمكانية إعادة الحياة إليها وهو أول من لفت أنظار المسؤولين إلى ضرورة ترميم سوق الليل مع الهيئة الملكية أولا ثم مع فرع السياحة في المدينة المنورة ثانيا مرورا بمتابعة أعمال الترميم وتذليل كل ما يواجه مقاولي منزل بابطين وسوق الليل ومنزل آل درويش من صعوبات وما يبذله من دعم لوجستي ..وحتى عندما عرض عليه العمل بشكل رسمي رفض الفكرة رفضا قاطعا مقدما نموذجا مشرفا للعمل التطوعي








هذان الرجلان لو جمعهما عمل مشترك لتحقق على أيديهما الكثير ولعاشت السياحة والتراث معهما في عيش رغيد ..



أتمنى ذلك ولكني في الختام أود أن أشير إلى أنني عندما أختزلت المقال في الحديث عن هؤلاء الأربعة ( رجلان وامرأتان ) فهذا لا يعني أنه لا يوجد غيرهم فينبع ولله الحمد ولادة ولها وفيها كثير من المحبين الذين ينذرون أنفسهم لخدمتها ويقدمون كل غال ونفيس في سبيل رفعتها ولكن هؤلاء هم البداية بحكم ريادة كل منهم في مجاله .. وسأسلط الضوء وأقدم الشكر بإذن الله للبقية عندما يأتي الدور بمشيئة الله

والله الهادي إلى سواء السبيل








صورة تذكارية مع الرمز التراثي المشرق في المنطقة التاريخية العمدة الشاعر أحمد عيد الذبياني