ينبع كما ورد في معجم البلدان بالفتح ثم السكون والباء مضمومة مهملة بلفظ ينبع الماء .. قال عرَّام بن الأصبغ السلمي : ( هي عن يمين رضوى لمن كان منحدرًا من المدينة إلى البحر ، وقال غيره : ينبع حصن به نخل وزرع ، وبها وقوف لعلي بن أبي طالب ، يتولاها ولده وكثرت أقوال القدماء فيها إلا أنهم اتفقوا جميعًا على أن هذا الاسم انما جاء نتيجة كثرة عيونها وينابيعها إذ يقول الشريف بن سلمة بن عياش الينبعي : ( عددت بها مائة وسبعين عينًا …)
وجغرافية منطقة الينبعين تمتد شمالاً حتى ميناء الحوراء ، والحوراء كانت من موانئ الحجاز على ساحل البحر الأحمر ، خربت قبل القرن السابع الهجري حيث قام على أنقاضه ميناء أملج في طرفه الجنوبي . وتمتد شرقًا حتى نهاية منطقة العيص وما حوله من أودية وشعاب ، وتمتد جنوبًا إلى ودَّان ( وموضع ودان اليوم قرية مستورة ) ، والمواضع في ينبع ( بشقيه النخل والبحر ) بعضها مازال معروفًا باسمه القديم والبعض الآخر حرف اسمه والساحل الممتد من ينبع البحر حتى ( دان ) قرية مستورة حاليا كان يحفل بالعديد من القرى المتصلة ببعضها مثل / قرية السليم المعروفة اليوم والتي كانت تسمى بذات السليم وهي منازل بني ضمرة رهط عزة صاحبة كثير حيث يقول كثير :
سلكت طريق الرائحات عشية مخارم ( نصع ) أوسلكن سبيلي
ونصع كما نعلم ( سلسلة جبال سود تمتد غربًا بين وادي الصفراء وينبع . ..
ولينبع شهرة واسعة في كتب التاريخ في حوادث صدر الإسلام لوقوعه على طريق القوافل التجارية بين الحجاز والشام ، فكان وما بقربه من المواضع ميدانًا لمناوشات كثيرة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وبين قريش وبعض القبائل التي كانت تسكن تلك النواحي ، وكثير منها كان ينتهي بغير قتال ومن تلك الغزوات : ( غزوة ذي العشيرة وغزوة بواط وسرية العيص .
ويرد اسم ينبع في كتب التاريخ في صور متعددة ( ينبع ) وهو الصواب و ( الينبع ) أو ( الينبوع ) وهما تحريف للأول ، ويكثر هذا في مؤلفات أهل القرن الثامن عشر فما بعده كالمقريزي والقطبي وابن إياس الحنفي ، والنابلسي وغيرهم ويطلق اسم ينبع في العهد الحاضر وقبله بزمن على ينبع الميناء أو ينبع البحر كما يسمى وإذا أريد ينبع النخل قيل ( ينبع النخل ) إلا أن اسم ينبع عند إطلاقه مجرَّدًا في كتب المتقدمين فإنه يقصد به ( ينبع النخل ) ..!
ينبع في كتب الرحلات
في مطلع القرن الثاني عشر الهجري سنة ( 1105هـ ) مر بينبع الرحالة الشيخ ( عبد الغني النابلسي ) فتحدث عنها في رحلته حديثًا ممتعًا وقال فيها :
سقى الله الحجاز وينبعيه وما حويا من الخير المهول
فينبع بحرهم نفع البرايا وينبع نخلهم مثوى العقول ..
ومما قاله في حديثه ( حتى أصبحنا يوم الثلاثاء وهو يوم العاشر من شعبان فركبنا وسرنا إلى أن وصلنا بعد الظهر إلى ( ينبع البحر ) ونزلنا هناك في ( القلعة ) على شاطئ البحر ولا ماء هناك إلا الماء الذي يجلب في وقت الصباح ويباع وسمي ( الينبع ) تفاؤلاً بنبع الماء فيه أو لنبع الأرزاق المجلوبة إليه من البحر وقلنا في ذلك إشارة إلى ماهنالك :
أتينا محلا شاطئ البحر دافق لديه بارزاق بها الله ينفع
جرت منه انواع الجرايات للورى كما الماء من عين جرى فهو ينبع
أما الأستاذ محمد حسن هيكل باشا فقد مر بينبع في ختام رحلته عائدًا إلى مصر من الديار المقدسة سنة 1937م وقال في كتابه الشهير ( في منزل الوحي ) : ( أصبحت بينبع مطمئنا سعيد ، وهبطت إلى غرفة الاستقبال فألفيت بها قوما من أهل البلد تفضلوا بزيارتي … )
وقد ورد ذكر ينبع في كثير من كتب الرحلات باعتبارها طريقًا من الطرق المؤدية للحج ومن هذه الرحلات :
( رحلة الجزيري ( 959هـ ) ، رحلة ابن خلدون ( 965) هـ ، رحلة محمد الحسيني ( 1039)هـ ، رحلة الوزير الشرقي الإ****ي 1143هـ وغيرهم ..
ولعلَّ كتاب ( أعمدة الحكمة السبعة ) للورانس العرب من أهم الكتب التي صورت ينبع تصويرًا تاريخيًّا وجغرافيًّا بل وتوثيقيًّا دقيقًا ، لاسيما ولورانس العرب الذي جاء ينبع عام 1335هـ ذرع هذه البلاد وعايش البدو والعشائر واندمج في حياتهم عدة سنوات إبان حكم الأشراف وأثناء الحرب العالمية الأولى عام 1914م ..
وينبع البحر تضاف إلى البحر للتفريق بينها وبين ينبع النخل ولوقوعها على ساحل البحرالأحمر وتأتي أهمية ينبع البحر لكونها ميناء المدينة المنورة وكانت الميناء الثانية في الحجاز وليـــس لها شهرة كبيرة عند المؤرخين في العهود الإسلامية قبل القرن السابع الهجري مع أن بعض المستشرقين يرى أنها كانت معروفة قبل الإسلام بل قبل ميلاد المسيح عليه السلام وأنها كانت تسمى في كتب اليونان القديمة : (NERA ) أو (NEGRA ) وقد نقــل
الدكتور جواد علي عن ( فورستر ) أن كلمة (NERA ) اليونانية تعني كلمة " ينبع " بالعربية ولذلك تعني كلمة (NERA KOME ) في العربية مدينة ينبع وأنها هي الميناء التي أبحر منها اليونان .
(ميناء الجار) كان معروفا في العهد الذي سبق الإسلام إلا أنه في اول العهد الإسلامي إكتسبت شهرة كبيرة حينما أصبح أشهر ميناء في الحجاز .
وتعهده الخلفاء وإهتموا بشأنه بعد فتح مصر فقد روى المؤرخون أن عمرو بن العــاص لما فتح الإسكندرية كتب إليه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يحمل الطعام منها إلى المدينة ، وذلك عن طريق ميناء الجار فأرسل
عمرو طعاما في عشرين مركبا ، في المركب ثلاثة آلاف اردب ، وأقل وأكثر حتى وافى الجار ، فخرج الخليفة ومعه جلة
أصحــــاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قدم الجار ، فنظر إلى السفن ثم وكل من قبــــض ذلك
الطعام وبنى هناك قصرين ، وجعل ذلك الطعام فيهمات ، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب للناس صكاكا من قراطيس
ثم يختم أسافلها ، فكان أول من صك وختم الصكاك .
أصبحت الجار الفرضة الرئيسية للمدينة وحازت شهرة تاريخية كبيرة بحيث كان البحر الأحمر يعرف ببحر الجار وأصبح
جغرافيوا القرن الثالث الهجري لايذكرون غيره في ناحيته .
ولقد أستخدم ميناء ينبع لترسوا فيه البواخر التي تحمل الأخشاب والحديد والإسمنت وجميع المواد اللازمة لبناء الحرم النبوي ثم تنقل هذه المواد على السيارات الضخمة للمدينة المنوره وقد بلغ مجموع البواخر التي رست في ميناء ينبع
القديم ثمانية عشر باخرة جاءت بمواد عمارة الحرم الشريف وقد بلغ مجموع ماأفرغته في الميناء 14700 طن من الحديد والإسمنت والأخشاب ومواد مختلفة . كان ذلك في عام 1370هـ
ينبع في عيون الحاضر
إذا كانت ينبع التاريخ اشتقت اسمها من كثرة ينابيعها وجعلت مركزها ينبع النخل نتيجة وفرة المياه ( المقوم الأساسي للحياة ) فإنَّ ينبع الحاضر انتزعت أهميتها الكبرى من خلال هذه الثورة الصناعية الكبرى والمتمثلة في ( مدينة ينبع الصناعية ) إحدى أكبر المدن الصناعية في الشرق الأوسط .. في الوقت الذي نضبت المياه في ينبع النخل العاصمة قديمًا نسبة لكتب المتقدمين الذين يطلقون اسم ( ينبع ) مجرَّدًا على ينبع النخل كما يشير بذلك الكاتب الراحل حمد الجاسر في كتابه الموسوم ( بلاد ينبع ) وفي الوقت الذي يقول فيه الشاعر الينبعي القديم ( العباس بن الحسن :
ياوادي القصر نعم القصر والواديمن منزل حاضر إن شئت أو بادي
تلقـى قراقيـره بالعفـر واقـفـةوالعين والنون والملاح والحـادي
هذه هي ينبع التاريخ العريق والينابيع الساحرة .. والمستقبل الحالم دائمًا بفجرٍ تتفتق أكمامه مجدًا وحضارة في ظل ماتلقاه من دعم لامحدود من حكومة خادم الحرمين الشرفين .، شأنها في ذلك شأن أقرانها من مدن مملكتنا الحبيبة.
ولكم التحيه والتقدير،،،
المفضلات