البدايات مع «البحر الهلالي» ومع الهزاني نشأت القافيتان
3 شواهد تكشف الموطن الاصلي لـ «الكسرة»


عكاظ/محمد بن حميد الجحدلي الحربي
يعتبر الشعر الشعبي قديم جداً، وأقدم مؤرخ تحدث عنه هو المؤرخ ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ وقد اورد عدداً من النصوص الشعرية الشعبية ونسب بعضها الى شعراء بني هلال، ويعتبر البحر الهلالي من اقدم البحور واول ما نظم عليه الشعر الشعبي وهذا البحر ووصلت الينا عن طريق بني هلال الذين جاهروا بهذا اللون من الفن، فهو يمثل الأصالة بالنسبة للشعر الشعبي والقصيدة تكون على قافية واحدة فقط لعجز البيت، ثم أتى شعراء المرحلة التي تلي بني هلال وساروا على نهجهم بطريقة نظمهم ولم يدخلوا على هذا البحر أي تطوير الا في بعض المعاني والاغراض بتطوير طفيف لا يكاد يذكر الا ان النظم سار كما هو حتى ظهر راشد الخلاوي الشاعر الفلكي المشهور من شعراء القرن الحادي عشر الهجري (1001- 1100هـ) فنقل الشعر الشعبي نقلة كبيرة واضاف الى اغراضه اغراضا جديدة وهذب طريقة النظم بعض الشيء وحرص على الوزن غير ان القصيدة لا تزال على قافية واحدة لعجز البيت فقط، ثم جاء من بعده الشاعر محسن الهزاني المتوفى سنة 1240هـ تقريباً، فجدد في الشعر الشعبي وابتكر بعض البحور الشعرية، ونشأت القصيدة ذات القافيتين “قافية لصدر البيت وقافية لعجز البيت”، ومما سبق يتضح ان القصيدة ذات القافيتين لم تظهر الا في القرن الثاني عشر الهجري ومن باب الفائدة نذكر ان بحور الشعر الشعبي تنقسم الى نوعين هي بحور اصيلة، وبحور مبتكرة.
نشأة شعر الكسرة
لا يوجد تاريخ محدد يشير الى زمن نشأة شعر الكسرة، و كل ما قيل في هذا الشأن عن تاريخ او زمن نشأة شعر الكسرة، هي افتراضات واحتمالات، لا يؤيدها أي دليل يثبت من خلاله صحة تلك الفرضيات.
لكن المرجح ان نشأة شعر الكسرة بشكله الحالي كان نتيجة لتطور الشعر الشعبي، فمن خلال ابتكار بحور للشعر الشعبي اشتقت من البحور الاصلية، ابتكر بحر الهجيني من البحر الاصلي الحداء، والبحر الهجيني له عدة اوزان في نظم القصيدة “التفعيلة” تتقابل مع بحور الشعر العربي مثل: المتدارك، والمجتث، والرمل،... الخ. واحد هذه الاوزان يتطابق مع شعر الكسرة حتى نشأ بعض الخلط بين شعر الكسرة وشعر الهجيني المتطابقة في الوزن.
ويحتمل ان شعر الكسرة ابتكر من بحر الحداء مباشرة من قبل الشعراء الشعبيين في الحجاز مع تطور الشعر الشعبي، ثم اندرج تحت اوزان بحر الهجيني. وهو ما نميل اليه. لكن ليس لدينا تاريخ او زمن محدد لنشأة شعر الكسرة. ثم مع نشأة القصيدة المقفاة التي تعتمد على قافيتين قافية لصدر البيت وقافية لعجز البيت، دخل ذلك التطوير الى شعر الكسرة واصبح شعر الكسرة ينظم على قافيتين، ويعتبر النظم على قافية واحدة فقط لعجز البيت من اكبر العيوب في شعر الكسرة، ولا يعتبرها الاغلبية من الكسرات حتى اذا كانت سليمة الوزن، بل ان الالتزام بقافية البيت سواء لصدر البيت او عجز البيت وهو ما يعرف بالاغصان له نظام يسير عليه الشعراء في النظم، فهناك قافية الثلاثة احرف المتشابهة، وهي ان تكون كلمة قافية البيت تحتوي على ثلاثة احرف متشابهة في الكسرة مثل كلمة: شاري، ساري،... الخ، وهذا الفن لا يجيده الا عمالقة هذا الفن، وهناك قافية الحرفين مثل كلمة: ابكي، اشكي،.. الخ. وهناك قافية الحرف الواحد مثل: مد، عد، .. الخ
الموطن الاصلي
تعتبر منطقة ما بين الحرمين الشريفين هو الموطن الاصلي لشعر الكسرة، وتلك المنطقة تمتد من مكة المكرمة الى المدينة المنورة لتشمل جميع الاودية الحجازية والمدن والقرى الواقع على تلك الاودية وعلى ساحل البحر الاحمر، ومن الشواهد التي تؤيد ذلك ما يلي:
1- ان نظم الشعر على وزن شعر الكسرة لدى سكان تلك المنطقة يعتبر في المقام الاول في نظم الشعر، ومتفوقا على غيره بمراحل. والنظم عليه يكون لكافة الاغراض مثل: الرثاء، المدح، الفخر، الهجاء، التوجد.. الخ. بل نجد اناساً من اهل تلك المنطقة ليسوا بشعراء ولم يعهد عنهم قرض الشعر ومع ذلك نجد لاحدهم كسرة او عدة كسرات قالها يصف بها حادثة، او حوادث ألمت به.
2- ان شعر الكسرة هو عماد الالعاب الشعبية في تلك المنطقة خصوصا الرئيسية منها والتي تعتمد على المحاورة الشعرية مثل: التقاطيف، زيد، البدواني، الرديح، وتتفق اصول تلك الالعاب على امر رئيسي لتلك الالعاب وهي مفاتيح اللعب وهي عبارة عن مفردة واحدة قابلة للاشتقاق.. منها لتطويع لحن الغناء مثل: واحلية، ياليحاني، حيوم، يا ليحيومه،.. الخ
3- يتميز شعر الكسرة بأنه سهل النظم وذو ايقاع سريع، تطرب النفس لسماعه والتغني به لانه يبعث على طرد الملل، والترويح على النفس، وشحذ الهمم، ولذلك نجد اهل تلك المنطقة من البحارة، والمزارعين، والجمالة، يتغنون بشعر الكسرة خلال ممارسة اعمالهم وحرفهم اليومية.
انتشار الكسرة
ساهمت المهن والحرف التي يمتهنها اهل المنطقة في انتشار شعر الكسرة ووصولها الى سكان المناطق الاخرى المجاورة لهم من خلال ممارسة تلك المهن، خصوصا فئتي البحارة والجمالة، لذلك كان من الطبيعي خلال قيام البحارة برحلات طويلة ومتعددة بواسطة السفن الشراعية على ساحل البحر الاحمر بشقيه الشرقي، والغربي، لممارسة الغوص، ونقل البضائع، والمسافرين بين تلك الموانئ كذلك قيام الجمالة بنقل البضائع والمسافرين بين المناطق الداخلية الاثر الكبير في نقل شعر الكسرة الى اهالي المناطق التي يصلون اليها، ولا غرابة ان يعجب الشعراء من اهل تلك المناطق بهذا اللون من الشعر، ويمارسون النظم عليه، ولا نبالغ اذا قلنا انه في الوقت الحاضر نجد ان نظم شعر الكسرة يمتد على طول ساحل البحر الاحمر من اقصى الجنوب الى اقصى الشمال، وفي المناطق الداخلية.
ومن الشواهد على ذلك فقد سبق ان اطلعت على لقاء في صحيفة البلاد قبل عدة سنوات مع اديب من اهل منطقة القنفذة من اسرة الفقي تحدث في ذلك اللقاء عن شعر الكسرة في منطقة القنفذة، وقال ان شعر الكسرة وفد اليهم مع رجل اسمه علي بن معيلي الجحدلي - رحمه الله تعالى - من اهالي بلدة ثول، حيث عاش لديهم في بلدة البرك عدة سنوات التقى خلالها مع بعض شعراء تلك المنطقة الذين اعجبوا بهذا اللون واخذوه عنه.كما ساهم اهالي ينبع في تطوير شعر الكسرة من خلال لعبة الرديح فبعد ان كان التحاور بين الشعراء في السابق يتم من بيت واحد (غصنين) في لعبة الرديح، اصبح التحاور من بيتين (اربعة اغصان) وفي بعض الاحيان يكون كسر اللحن باربعة ابيات (ثمانية اغصان)
التميز

ازدهر شعر الكسرة لدى اهالي ينبع، بعدما منحوه الكثير من الاهتمام تطويرا وتدويناً ودخول بعض المفردات الجميلة في النظم، وهذا الامر لا ينكره المتابعون وان كان يحسب لاهالي ينبع التميز في شعر الكسرة، وتطويرها، وازدهارها، والحفاظ عليها، غير ان نسبة شعر الكسرة الى ينبع، او انها المواطن الاصلي لها اجحاف لبقية اهالي المنطقة الواقعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، فلا يوجد دليل يثبت ان ينبع هي الموطن الاصلي لشعر الكسرة، وكل ما يقال في هذا الشأن هي اقوال عاطفية تخلو من الدليل المادي الذي يؤيد هذه الاقوال.