الوكالات عبارة عن مستودعات كانت منتشرة في ينبع قديما لحفظ البضائع الواردة والصادرة لكبار التجار
وفي هذه الحلقات يعالجها الأستاذ مفوز الفواز بقلمه الرشيق ويسلط الضوء عليها وعلى دورها في الماضي البعيد ندعوكم لمتابعتها والاستفادة منها
***********
*******
****
**


الوكالة
بقلم /مفوز مفيز الفواز

الحلقة الأولى[align=justify]
كان يمشي الهوينَى ، يتمايل يمنةً ويَسْرة ، وقد أضناهُ شَقا يومِه ، لا يفكر في شيء سِوَى العودةُ لمنزلهِ فيلقى أولادَهُ الصّغارَ ، وهم ينتظرونَه أمامَ الدارِ ، وقد قَعد كلُّ واحدٍ منهم على حجرٍ يرقبُ المارةِ في الطريق وكأنهم يبَحثون عن ضالةٍ، وأمُّهم تتَرقُب من خلفَ البابِ ، عيناهَا على أبنائها الصغار ، وقلبُها مع القادمِ من بعيد ، متى يعودُ، تنتظر عودَته بشغفٍ أكثرَ من أبنائِها ، لتستقبلَِه مُهللِّة فتُريحُه من فتحِ البابِ حتى لا يُعيقُه عن الدخولِ ، فلرُبما أعيَاهُ التعبُ ، فهو بحاجةٍ إلى من يرعى قدومَه.
هيَّأتْ له الماءَ الدافِئ الممزوج بالملح في الطِّسْتِ... ليَضَع فيه قدمَيهِ المُضنَيتين من الوقوف طوال النهار ، ليَمتص منهما التعبَ ، فقد خرج "أبو صالح" في الصباح الباكرِ بعد أذان الفجر الأول ليصلي في الزاوية الصغيرة في وسط سوق البلدة ، فخُطاه المتقاربةُ ، ونظرُه القصيرُ لا يساعدانهِ على الوصول إلى الزاوية مبكراً للصلاة ، ولهذا فهو يخرج من منزله قبل أذان الفجر الثاني ليتمكن من أداء الصلاة جماعة ، ومنها إلى السوق مباشرة دون تأخير ، فالرزق في التبكير .
كان يعملُ في وكالةِ أحدِ التجارِ ، وهي عبارة عن متجرٍ كبير على شكل مستودع ، لها مدخل واحد كبير يفتح على طرقة تحيط بها على الجانبين غرفٌ مزودةٌ بكل متطلبات البيعِ والشراءِ إضافة إلى غرف لاستقبال كبار التجار تعلوها غرف لراحة صاحب الوكالة وضيوفه ، وفي الداخل عند نهاية الطرقة الممتدة من البوابة حتى وسط الوكالة ، غرف كبيرة على طول محيط الوكالة من جهاتها الأربعة ، يتوسّطُها فراغ كبير يتسع لجميع البضائع عند جلبها للوكالة فيتم فرزها ووضع كل صنف على حده في هذه الغرف المتراصة ، عدا الغرف المجاورة لبوابة الوكالة والمطلة على السوق والتي تخلو من النوافذ المُطلَّة على الخارج للناحية الأمنية ، كما أن غالبية المحال التجارية والوكالات عادة ما تكون متلاصقة مع بعضها مما لا يسمح بذلك ، إلا أنه يُستعاض عنه بفتحات صغيرة تُطل على الساحة من الداخل للإنارة ، وليس لهذه الغرف أبواب حتى لا تعيق حركة التحميل ، إلا ما كان منها مخصص للأشياء الثمينة.
أما الساحة فقد سقفت بالأخشاب على شكل هرمي محمول على مجموعة من الأعمدة المرتكزة على طول جدار الغرف من الداخل غير متباعدة، وبارتفاع نصف متر تقريباً للتهوية وإدخال أشعة الشمس للإنارة من خلال قضبان الحديد المثبت على أُطرٍ من الأخشاب بين تلك الأعمدة.
كثيراً ما يلجأ أصحاب الوكالات إلى إبراز ثرائهم بتزيين واجهات وكالاتهم والتي غالباً ما تكون واجهة واحدة ، لأن المتاجر متراصة إلى جوار بعضها البعض ، فيعمدون إلى فتح النوافذ الكبيرة ذات الدكاك الممتدة إلى الداخل والخارج حيث يُثبَّت عليها شباك كبير يسمى (الروشان)، وله ثلاث واجهات ، الواجهة الأمامية تحتوي على أربع فتحات ، أما الواجهتين الأخريين ، فكل واحدة منها تحتوي على فتحة واحدة ، ولا تقل نوافذه المتحركة في الفتحات الست عن أثني عشر شباكاً ، سِتةٌ منها تفتح إلى أسفل وستةٌ أخرى إلى أعلى تُـثبَّت بشناكل خاصة بها، ويتم اختيار أبرع النجارين لتصميم واجهة الروشان من الخارج ، لَيَصنَع منها لوحة من الفسيفساء نقشت بيد فنان يُذكَرُ اسمُه ما بقي هذا العملُ قائماً ، وقد استَخدم أجودَ أنواع الأخشاب المطاوعة للحفر والنقش ، ومقاومة لعوامل الطبيعة.
ويزداد العمل جمالاً إذا ما رُبِطَ بشباك يعلوه على واجهة الغرفة العلوية ، لتكتمل الصورة وكأنها لوحةٌ واحدة يعلو كل واحد منها الآخر ، فالتجانس في العمل وتوحيد الفكرة لم يُفقِدها جمالها بل أكسبها روعة وفخامة.
ولكي تكتمل الصورة ، فيشار بالبنان إلى واجهة تلك الوكالة ، يَعمَدُ صاحبها إلى إقامة النوافذَ في الجانب الآخر من الواجهة إذا ما كان هناك مُتسع لديه ، يصلهما بشرفةٍ تصلُ بين الروشانين الواقعين على يمين البوابة وشمالها ، فتبدو الوكالة عندما يُفتح بابها على مصراعيه وكأنها صرحٌ تُـبهر الناظرَ إليها وتُشعر من دخلها بالثقة على بضاعته إذا كان مشترياً أم بائعاً.
هذه الشرفة لا تقل روعة وجمالاً عن سابقيها رُغم بساطتها، فهي بمثابة واسطة العقد، وقد اكتسبت هذا الجمال من الحسِّ المرهف والذوق الرفيع لدى النجار الصانع لهذه التحفة المتكاملة عندما ربطها جميعاً بخط واحد من أعلاها، وقد رقَّنَها بنمنمات من الخشب الصغير المقطع بأشكال تُـبْهِرُ العقل من دقة صنعها وتراكيبها، وقد ماثل بين التكوينات بأقواس متداخلة تعلو كل واحدة الأخرى لتمثل قِبَاباً شُطِرَت إلى نصفين ، مدلِّلَة علي الرؤيا الفنية ، وكأن هذا الرسام البارع تخرج من أرقى مدارسِ الفنِّ والرسمِ ، ولكنه في الواقع هو مدرسةٌ يستحق أن يُعَلَّمَ فَنُّه .
يقضي النجار في هذا العمل أياماً طوالاً ، بل أشهراً عدَّة بدون ملل أو كلل ، يشحذ فكره ويستعين بخبراته المتراكمة في هذا العمل، فيطوره بعد أن يجمع بين رغبة صاحب العمل وفكره المتفتح ، فيعمد إلى رسم الخرائط والخطط . وقد عَرِفَ برؤيته الفذَّة ، متى .. ومن أين يبدأ العمل.
لقد انتظر "البَنَّاء" حتى يشرع في تحديد مواقع النوافذ ، عندها يتدخل المعلم النجار للإشراف على تثبيت قاعدة الرواشين المراد إقامتها حيث يتم غرسها في الجدار من الخارج مستندة على زوايا خشبية ، والقاعدة مكونة من قطع خشبية من النوع المستخدم في تسقيف المنازل ، بأن يغرس جزء منها في الجدار ويبرز الآخر الذي سوف يثبت عليه الروشان ، أما الزوايا التي ترتكز عليها القاعدة فهي أيضاً من الأخشاب لا تقل سماكة عنها، غرست في داخل الجدار من أسفل ، وترتبط بالقاعدة من مقدمتها على شكل زاوية ، ويتم تغطيتها بالأخشاب عند تجميل الروشان من أسفله.
ما إن تنقضي صلاة الفجر ، حتى يَشرع أمين الوكالة بفتح أبوابها ، فتدب الحياة فيها وكأنها خليةُ نحلٍ ، لا يَعرفُ العاملَ من البائعِ و المشترِي أو طالبُ عملٍ إلا الناظرَ عليها أو صاحبُ الوكالة نفسُه ،وقد جلسَ السيد "صاحب الوكالة" على كرسيٍ عريضٍ في مدخل الوكالة " المركاز " لا يجلس بجوارهِ أحدٌ إلا من أشار إليه بالجلوس ، يُصِّرف الأمرَ حسبما يراه ، وقد زُيِّنَ الكرسيُّ بمتكأٍ يتناسبُ مع مكانتِه في السوقِ ، أمامه مكتب صغير يضع عليه دفترَ الحساباتِ اليومية ، وما يُقدَّم إليه من مشروباتٍ كالقهوةِ أو الشايُ ، وقد وقف أمامه أحد العمال خُصص لخدمته ، حتى لو بَعُدَ عنه فإنه يَرْقُبه بِنَظرهِ وسمْعِه ، لا يغفل عنه لحظة واحدة ، وإذا ما جاء أحد التجار المهمين ، فإنه يشير إلى الناظر على الوكالة لِيَحِلَّ مَحَلَّه ، ويقوم من مقعده ليستقبله ويدخله في الغرفة الخاصة باستقبال التُجار حيث كاتب الحسابات يجلس فيها يدقق الحسابات اليومية ويراجع المبيعات والمتبقي من المخزون ويسجل البضائعَ الواردةَ لصاحب الوكالة أو المُوكَلِ عليها إن كانت للتصدير أو التوريد، ويجلسَا هو وضَيفُه في الروشان المطل على السوق ، بعد أن يَفتحَ الخادمُ النوافذَ ليرى المارةُ ضيوفَ سَيِّدهِ المُهِمِّينَْ.
[/align]



يتبع