ليس من بلد يضاهيها في هذا اللون من فنون الهندسة الإروائية، فاليمن هي البلد الذي يمتلك أكثر وأضخم مشاريع الري القديمة في العالم التي صنعتها الحضارات الإنسانية القديمة بمنأى عن أي استخدام للتكنولوجيا أو التقنيات الميكانيكية.. والتي ما لبث أن نسخ الإنسان اليمني صورة منها في أسبانيا- مازالت مثار دهشة وجدل الأوروبيين، وموضع دراساتهم حتى يومنا هذا.

فـ(الماجل)- عبارة عن خزانات مائية متفاوتة الأحجام يتم حفرها في بطون الجبال، وتعمل لها المساقي والقنوات الكفيلة بتجهيزها بمياه الأمطار وأحيانا قليلة الغيول- وكذلك الكفيلة بتوزيع مياهها على جهات الاستهلاك، وتعد المناطق الوسطى من اليمن، كبلاد يافع والضالع وإب و البيضاء، من أغنى مناطق اليمن بالمواجل.


- أنواعهـا وتصاميمهـا


تقسم المواجل إلى نوعين - طبقا لتصاميمها الهندسية:
أولا: المواجـل المغلقــة:

يحفر هذا النوع باتجاه أفقي في بطن الجبل، يتوغل فيه الى مسافات متفاوتة قد تصل أبعاد الكبيرة منها إلى ما بين 40-50 متر طولاً، و80-100 متر عرضاً، كما هو الحال مع ماجل (الصراري) بمدرية جبن من محافظة الضالع الشهيرة بالمواجل إلى جانب أمثلة أخرى في (هرهرة) و(خلاقة) من بلاد يافع. أما العمق فغالبا ما يكون بين 4-5 متراً؛ أي أن المواجل الكبيرة تتسع إلى ما يقارب (20-25) ألف متر مكعب من الماء.

ونطلق على هذه المواجل صفة "المغلقة" كونها مصممة على نحو غائر في بطن الجبل لا يبدو منها سوى فتحة شقية صغيرة لا تتجاوز في بعضها (متران) عرضا ومتر واحد ارتفاعاً.بحسب اعتقادي أن الحضارة اليمنية القديمة تعمدت تضييق مساحة فم الماجل لأسباب مهمة منها: أ
اولا – للحيلولة دون السماح للحجارة المتساقطة من الجبل، وكذلك الأتربة، الأوساخ من الدخول إلى الماجل وتلويثه.
ثانيا - لتقليل نسبة تبخر المياه من الماجل إذا ما تعرضت مساحات واسعة منه لأشعة الشمس والرياح ، خاصة وأن موسم الأمطار محدود، وهناك حاجة ملحة لتقنين الاستهلاك والحفاظ على الماء لأطول فترة.
ثالثا ً- حرصاً على إبقاء الماء بنكهة عذبة ضمن درجات حرارة الأرض التي تجعل من الماء دافئاً في فصل الشتاء البارد، والعكس في فصل الصيف الدافئ، فضلا عن حماية الماجل من العوامل المناخية وتفاعلاتها.


ثانياً: المواجـل المفتوحـة
وهي خلافا للأولى، يتم حفرها باتجاه عمودي بحيث تتساوى فيها قاعد الماجل مع فمه الذي يبقى مفتوحا للفضاء طوال العام. ومع أن هذا النوع واسع الانتشار إلا أنه ليس بحجم النوع الأول، إذا أنه يتخذ شكلاً مكعباً أو مستطيلا تتراوح أبعاد أضلاع أكبرها ما بين (8×4) مترا إلى (10 × 5) متراً.
ومن خلال البحث الميداني يبدو أن هذه المواجل كانت ملحقة بالمنشآت المدنية- سواء كانت بيوت، أو قصور ملوك وأمراء، أو منشآت تجارية وصناعية وخدمية تستدعي وجود وفرة من المياه لحاجة مستديمة. وهو الأمر الذي نستنتج منه أن النوع الأول من المواجل ربما كان مملوكا للدولة، بينما النوع الثاني ملكا للقطاع الخاص.




- شبكات التغذيـة والتوزيـع


نظمت الحضارة الإنسانية القديمة للمواجل شبكات هندسية دقيقة تكفل تغذيتها بالمياه. فقد تم نحت مساقي طبقا لانحدارات سطح الجبل الذي ستهطل عليه الأمطار بحيث تضمن هذه المساقي انصباب المياه فيها، وإيصالها إلى فم الماجل، حتى وإن كان ذلك عبر مسالك متعرجة وطويلة يسلكها المسقى. وقد يكون المسقى الواحد موجهاً لتغذية أكثر من ماجل في آن واحد من خلال تشعب قنوات فرعية عنه.
فيما نجد أحيانا كثيرة أن شبكة التغذية مصممة على أساس أولويات معينة، بحيث تصب في ماجل بعينه، حتى إذا امتلأ وفاض انسابت مياهه في مسقى جديد يقود إلى ماجل آخر، يتكرر معه المشهد ذاته، إذ أنه بعد الامتلاء يفيض لينساب في مسقى ثالث، وربما رابع أيضا بحسب خارطة انتشار المواجل على الجبل الواحد.
وجميع المساقي منحوتة بدقة متناهية في الجبل. وقد حرصت تلك الحضارات على نحت حفرة لا يزيد عمقها عن المتر قبل الماجل بمسافة مترين أو ثلاثة يطلق عليها الأهالي اسم (المَنَشـَّة) أو (المَصْفى)، تكون مهمتها ترسيب الحجارة الصغيرة والرمال والعوالق الأخرى قبل بلوغ الماء، لضمان أكبر نسبة ممكنة من النقاء.
ومثلما تم نحت مساقي التغذية، بدت هناك أيضا مساق صغيرة وضيقة منحوتة باتجاه أسفل الماجل تقود المياه إلى مواضع استهلاكها. لكن الواضح أن هذه المساقي كانت مخصصة للملوك والأعيان وليس لعامة الناس الذي يفترض منهم نقل الماء بأوعية مما كان يستخدم آنذاك.
وتشير خارطة سير تلك المساقي إلى أنها كانت تخترق القصور من جهة وتخرج من جهة أخرى بحيث يتم الانتفاع من المياه المستخدمة في أعمال التنظيف والغسل ثانية بتوجيهها نحو الحقول الزراعية في الوادي أسفل الجبل ، والتي يعتقد أنها تعود أيضا لأصحاب نفس البيوت
.



- أســرار المواجــل


مازالت أسرار حفر هذه المواجل موضع حيرة العلماء والمختصين. فالآثار التي ارتسمت على جدرانها تُظهر بوضوح أنها آثار ضربات فؤوس ومعاول ، إلا أن ظهور آثار ضربات قوية يمتد طول إحداها الى ما بين (20-30) سنتمترا أثارت جدلا طويلا حول نوع الآلة التي استخدمت في الحفر بحيث تترك أثرا كما لو أنها قشطت جدارا طينيا وليس صخريا.!
أما الأمر الأكثر غرابة هو أن الأهالي الذين جربوا حديثا إحداث توسيع أو تعديل في جدران الماجل تفاجئوا أن أي نحت جديد في جدرانها يفقدها خاصية حفظ المياه، وأن أية مياه تخزن فيها ما تلبث أن تتسرب عبر المسامات خلال أيام أو بضعة أسابيع في أبعد الأحوال. وهو الأمر الذي آثار التساؤل حول سر هذه الظاهرة! وإلى أي مدى كانت الحضارات اليمنية القديمة مُلمَّة بالحسابات الجيولوجية للأرض، بحيث تتوقف عند حدود معينة من الحفر والنحت في الصخور!
إن البحوث التي قامت بها جهات الاختصاص لم تكشف حتى اليوم أن الحضارات اليمنية القديمة كانت تستخدم تقنيات حفر ميكانيكية متطورة.. لكن نحت ماجل بالمساحات التي تحدثنا عنها فيما سبق يجعل من المسألة تبدو لغزا محيرا في كيفية تمكن الإنسان اليمني من قهر الطبيعة الجبلية الصمّاء وحفر تلك الخزانات العظيمةّ ، كذلك في الوقت الذي يمكن أن يستغرقه حفر ماجل واحد! وفي حجم القوة البشرية العاملة التي أنيطت بها المهمة الشاقة!
فالأعداد الهائلة من المواجل تؤكد أن مسألة حفرها لم تكن مهمة معقدة وشاقة كما هو حال حضارتنا اليوم التي تضطر لاستخدام البارود لتفتيت الصخور بجانب تقنيات علمية متطورة للغاية.
في الموروث الشعبي اليمني يعتقد بعض الأهالي أن الحضارات اليمنية القديمة كانت على معرفة بحسابات فلكية دقيقة جداً، بحيث تباشر أعمال الحفر في أيام محددة تكون الأرض فيها أقل صلابة مما هي عليه بقية أيام السنة.. لكن هذه الفرضية لا تبدو مقنعة.
فريق آخر من الأهالي يعتقد أن الحضارات القديمة ربما كانت توصلت إلى اختراع مادة كيماوية معينة تساعد على تفتيت الصخور إذا ما تم رشها عليها، جراء تفاعلات حمضية كتلك التي تحدثها الأمطار في الكهوف وبعض المناطق. وهو تفكير فيه الكثير من المنطق – من وجهة نظري- رغم أن البحوث اليمنية تجاهلت البحث فيه.
فيما يذهب فريق صغير إلى ربط المسألة بالجان.. ويسند رأيه إلى القصص القرآني ، وما روي عن نبي الله سليمان "عليه السلام" ، وكيف سخر الله له الجان ليعملوا بأمره، فيبنون، ويحفرون ، ويزرعون ، ويؤدون مختلف الأعمال التي يؤمرون بها.. وتلك مسألة يتحاشى خبراء الآثار الخوض فيها ، أو حتى الأيمان بوجودها ما دامت لا تدخل في مناطيق التحليل العلمي المادي.. مع أننا نؤمن بها ، ولكن نعتقد أنها كانت معجزة النبي سليمان " عليه السلام " التي يختص بها الله أنبياءه دون سواهم.
إذن فإننا رغم دخولنا القرن الحادي والعشرين، وبلوغنا رقياً علمياً رفيعاً جداً نقف عاجزين عن تحليل ظاهرة مادية من صنع إنساني عصر لم يكن يعلم فيه أن الأرض كرويةِ.


- مواجل اليمن في أسبانيا


في عام 1997م وصل اليمن فريق خبراء آثار من إحدى الجامعات الأسبانية في "برشلونة"، حاملين معهم صوراً وأفلاماً لمواجل في أسبانيا، وكنت محظوظاً بالانضمام إليهم في مناقشة مشاريع الري القديمة في اليمن ، وعلاقتها بما هو كائن في أسبانيا – وكنت يومها منهمك في دراسة مماثلة حول ما يخص اليمن.

بعد الإطلاع على الصور والأفلام والاستماع إلى الدراسات الموضوعة بشأنها، اخترت أن انقلهم إلى مديرية "جبن" بالضالع لأريهم النسخة الأم لما يتحدثون عنه.. فكانت خلاصة أيام البحث والنقاش أن تأكد الأسبان إن الإنسان اليمني الذي عمل كل هذه المواجل في اليمن هو نفسه الذي عمل ما هو كائن في أسبانيا، وكان ذلك خلال الفتوحات الإسلامية التي تروي كتب السيرة أن الحملة ضمت أعداداً كبيرة من أبناء المناطق اليمنية الوسطى – ويخص بالذكر يافع- عندما استقروا فيها ، وباشروا أعمارها وإقامة المشاريع – بما في ذلك مشاريع الري.
فالفحص الجيولوجي والأثري أثبت أن المواجل في اليمن سبقت ما لدى أسبانيا بأكثر من ثلاثة قرون، مما يعني أن المواجل في اليمن تمثل واحدة من فنون الهندسة الإروائية لعصر "الحميريين"، الذين ما لبثوا أن شهدوا الإسلام، وحملوا ببارقة إلى مشارق الأرض ومغاربها.
فطبقاً للروايات التاريخية : أن قبائل اليمن اندفعت في صفوف الجيش الإسلامي المجهز لفتح بلدان أوروبا ، وأن عمرو بن العاص – حاكم مصر آنذاك – أمر قواته بضرب طوق على ضفة النيل بالقرب من منطقة "الجيزة" للحيلولة دون عبور قوات القبائل اليمنية للضفة الأخرى. لكن اليمنيين عندما وصلوا الى هناك ، وأخبروهم أن ابن العاص أمر "بضرب سور حول المنطقة " ، ردوا على المتحدث قائلين : " دعونا نمر فإن صدورنا أسوارنا ".
وهكذا عبر اليمنيون النيل ، وسميت المنطقة من يومها بـ"الجيزة " لأنهم اجتازوا منها النيل .. وواصلوا زحفهم ضمن قوات إسلامية أخرى إلى أوروبا. وهو الأمر الذي يفسر لنا كيف أن مناطق عديدة في أسبانيا تحمل حتى يومنا هذا أسماء يمنية ، مثل "جبل حاشد " ، "وادي الذراحن " ، "جبل ذمار " ، " جبل يافع " ، منطقة "سبأ" ، وغيرها من الأسماء التي نعجز عن حصرها.
لاشك أننا لم نكن أمام حضارة إنسانية عادية ، انطوى ذكرها على هامش التاريخ ، بل كانت هناك إرادة يمنية حقيقية ، وحكمة عظيمة تحدت أقدارها ، وقهرت الطبيعة القاسية ، وكتبت معجزاتها الحضارية التي مازلنا نتساءل مع أنفسنا : كيف بلغ اليمنيون كل ذلك المجد التاريخي ، وكيف صنعوا الحضارة من محض أحلام وأماني ..!
[img]http://www.nabanews.net/photo/Image/new/majel%20(5).JPG[/img
]