د.محمد حامد الغامدي
لا اعرفه.. لكن الصدفة جمعتني به.. طفل له قصة.. معها تذكرت [انشتاين] العالم الذي كان طفلا.. تذكرت [اديسون] المخترع الذي كان طفلا.. تذكرت ابن خلدون الذي كان طفلا.. تذكرت ابن سيناء.. وابن الهيثم.. تذكرت العظماء في تاريخ بلدي وأمتي.. تذكرت أيامي في أمريكا.. تذكرت أيضا قريتي الرابضة على أحد سفوح جبال السراة.. تذكرت حتى حميرها قبل أن تنقرض.. تذكرت حكماء القرية.. لا يقرأون ولا يكتبون.. مع عوض عشت فيلما طويلا.. فيلما صامتا به مشاهد صامتة.. جعلت مني رجلا صامتا.. أمام قصة يصعب تصديقها.
ـ طفل يعيش في مدينة الدمام.. كنت أعيش في قرية صغيرة عندما كنت في مثل عمره.. حوله الكثير من السيارات.. لم يكن حولي سوى الحمير والأغنام والدجاج وبعض القطط.. حول الطفل (عوض) الإمكانيات والعلم والمتعلمين والمدارس والجامعات.. لم يكن حولي شيء من هذا.. رغم كل الإمكانيات لوطنه ليس هناك مقعد دراسي واحد لـ(عوض) في المرحلة الابتدائية.
ـ سألته: لماذا لا تذهب إلى المدرسة؟.. كان لابد من طرح هذا السؤال.. كـ(طفل) رأيته الساعة العاشرة صباحا يجلس على الرصيف.. وحيدا كأنه ينتظر شيئا لم يأت بعد.. استوقفني المنظر.. تساءلت: لماذا لا يكون هذا الطفل في المدرسة في هذه الساعة؟.. لابد من سؤاله.. هكذا كأني أصبحت مسؤولا عن هذا الطفل.. سألته: لماذا أنت هنا؟!.. أليس عندك مدرسة؟.. هب واقفا.. في عينيه الكثير من الكلام.. الكثير من التطلعات.. والكثير من الأحلام.. قال: لا.. قلت: لماذا..؟!.. قال: لم يقبلوني في المدرسة.. يقولون: ليس لي مكان.
ـ يا للهول.. سألته هل أنت سعودي.. قال: نعم.. سؤال غبي كان يجب أن لا يكون مع الطفل البريء.. سألت: أين أبوك؟.. قال: أبي في البيت.. أخيرا احضر لي رقم جوال والده.. في تلك المسافة الزمنية.. تذكرت أبي الذي حملني على كتفه هاربا بي من القرية الجاهلة إلى المدينة المتعلمة.. نعم هاربا بي من الجهل إلى العلم..كنت طفلا صغيرا.. حملني بعيدا عن أمي.. كل ذلك من اجل الدراسة.. وصلت معه إلى مقر عمله في مدينة بقيق.. كانت المدرسة بعيدة عن سكن أبي الذي كان في حي (أرامكو).. أخذني إلى المدرسة.. اعتذر مديرها عن عدم قبولي.. لم ابلغ السادسة.. في محاولة أخرى حملني إلى الدمام.. قابل مدير التعليم في ذلك الوقت.. حصل على موافقته.. انتظمت في الدراسة.
ـ أثناء رجوعنا سمعت أبي يدعو لهذا الرجل بأطيب الدعاء.. أخذني أبي من يدي يرشدني على طريق المدرسة.. ثلاثة أيام إلى أن تأكد له أنني أصبحت متقنا وملما بـ(طريق) المدرسة..مشيا على الأقدام.. كنت طفلا يخاف علي من كل شيء حولي.. لكنه أمدني بـ(الكثير) من النصائح والإرشادات التي حمتني من الوقوع في الأخطاء أو أن أكون فريسة سهلة لـ(الآخرين).. تذكرت أبي.. دعوت له بأطيب الدعاء ومازلت.. قصة (عوض) ذكرتني بـ(طفولتي).. هل هناك آباء لا يستطيعون تدريس أبنائهم في هذا الوطن؟!.. كلّي رغبة في مقابلة أبو عوض لـ(الوقوف) على حقيقة الوضع.
ـ في هذه الأثناء تذكرت دراستي في أمريكا ومعي طفلان (عمر و زياد).. في أحد الأيام تلقيت مكالمة تلفونية أذهلتني.. أدهشتني.. جعلتني اقف إجلالا واحتراما لـ(أمريكا) البلد والنظام والإمكانيات واحترام الحقوق.. خاصة حق الطفل في التعليم.. كان الصوت يأتي من قبل سيدة تقول: لديك ولد اسمه (عمر).. يومان لم يحضر إلى المدرسة.. كان ذلك مع بداية العام الدراسي.. قلت: أي مدرسة تتحدثين عنها.. لم أسجله حتى الآن في أي مدرسة.. شرحت لي أن اسم ولدي (عمر) موجود لدى المدرسة.. له ملف تم استلامه من المركز الصحي (بتاع) الحي.. يجب أن يكون في المدرسة غدا.. ليس عليّ إيصاله إلى المدرسة.. باص المدرسة سيمر أمام المنزل.. حددت الساعة.. شرحت لي أيضا موقع المدرسة.
ـ قصة حصلت لي شخصيا.. ليست حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.. هذا ما جرى لـ(الطفل) (عمر) في أمريكا.. طفل عربي لا ينتسب لـ(أمريكا).. كان مقيما مع أبيه ينتظر العودة إلى بلده المملكة.. التعليم في أمريكا إجباري لـ(الأطفال).. هناك من يتابع كل طفل ويتأكد من انه منتظم في اقرب مدرسة إلى البيت.. ولأن التعليم إجباري.. نقل الطالب من بيته إلى المدرسة يتم أيضا من قبل المدرسة لـ(ضمان) حقه في التعليم حتى في ظل وجود آباء متقاعسين أو متخاذلين.
ـ حالة الطفل (عوض) أيقظت كل هذه الذكريات.. تساءلت مجددا: هل يعقل أن يكون (عوض) ضحية من ضحايا إنسان الإمكانيات.. إنسان الغنى.. وإنسان النعمة؟!.. تساءلت: أين المسؤولون؟!.. تساءلت: هل من حق مدير أي مدرسة رفض أي طالب وطرده من مدرسته إلى الشارع لـ(البحث) عن مدرسة أخرى؟.. تساءلت: لماذا لا يحال أمثال (عوض) من المدارس مباشرة إلى إدارة التعليم لـ(لبحث) عن مقعد له ولأمثاله؟!.. في حال عدم وجود مقعد.. يجب أن تتحمل وزارة التربية والتعليم تدريس الأطفال في مدارس خاصة.. حتى يتم توفير مقاعد دراسية قريبة من بيوتهم.. أو أن تتحمل نقلهم بـ(سيارات) خاصة من بيوتهم إلى أي مدرسة في المدينة.. انهالت الحلول والبدائل.. انهالت الأسئلة.. انهال كل الغضب مني كـ(المطر).
ـ أخيرا قابلت (سالم) أبو عوض.. وجدته رجلا متعبا.. لكنه متقد الحماس.. أكد لي أن ابنه لم يدرس بسبب رفض مدير المدرسة بـ(حجة) أن الفصل لا يتسع.. سألته: هل ذهبت إلى مدرسة أخرى؟.. قال: لا.. لكنه وضح أن لـ(عوض) ملف في المدرسة.. يقول: إذا لم يدرس في هذه المدرسة القريبة من البيت فلن أستطيع الذهاب به إلى مدرسة ابعد.. أبو عوض رجل مريض لا يعمل.
ـ أثناء حديثي مع (سالم) استأذنني لـ(يجلس) على الرصيف.. لـ(عدم) قدرته على الوقوف.. لديه آلام في الظهر.. لا يستطيع أيضا أن يقود سيارة.. ثم وصف لي وضعه وحاله.. قال انه يسكن في شقه اقرب إلى الخربة.. ليس لديه مال كاف حتى يصرف به على عياله.. فـ(كيف) يمكن أن يصرف على ابنه في مدارس خاصة؟!.. ثم يتابع: افضل أن يظل ابني أمامي حيا سليما.. ولا يذهب من شارع في شارع إلى مدرسة بعيدة.. يمكن أن يدهسه سائق متهور أو يختطفه ناس مجانين.. ثم حكى لي قصة الصراصير التي احتلت البيت وتعيش مع أطفاله حتى في نومهم.. حكى لي قصته مع صاحب الشقة الذي يهدده صباح مساء.. تشعب الحديث.. تهت في زمن الأرقام والرخاء.. رأيت (عوض) نقطة سوداء في هذا الزمن الذي لم يستطع توفير مقعد دراسي لـ(ابن) الوطن الطري.
??نتساءل: هل هناك أطفال ليست لهم مقاعد دراسية؟.. جميل أن يكون لكل طفل يعيش على هذه الأرض المباركة مقعد دراسي بـ(المجان).. جميل أن تجتث الأيدي والعقول التي تسيء وتشوه الإنجاز.. (عوض) مازال في الشارع يتابع حركة الشمس البعيدة.. بعيدا عن شمس التعليم.. بعيدا عن شمس المستقبل.. بعيدا عن شمس الحياة الكريمة.
ـ بكيت/ تجرعت الحزن عليك/ يا (عوض)/ لم استطع (....)/ بكيت/ يا (عوض)/ يا غصة الزمن/ يا حسرة الوطن/ يا خسارتك يا وطن/ حتى الآن/ يا (عوض)/ في الشارع تنتظر/ حملت قضيتك/ بـ(يدي)/ نعم بـ(يدي)/ نشرتها بدون روائح/ أمام مدير عام التعليم/ في مكتبه الأنيق/ اكتفى بـ(شكري)/ والدعاء لي/ أحال الأمر لـ(رجل) آخر/ كرر الشكر/ كرر التبجيل/ ثم وعد/ ثم وعد/ ثم وعد/ يا (عوض)/ لابد أن هناك نقاشا وجدلا/ مجالس شكلت/ محاضر طرزت/ هذا هو الفشل يا (عوض)/ هذا هو الفشل يا (عوض)/ هناك بكرة/ هناك بعده/ هناك راجعنا/ هناك روح حتى نتصل/ يا (عوض)/ يا طفل الوطن/ عليك الانتظار/ إلى أن تموت/ وأنت في كبد.. آه يا عوض/ يا خسارة الوطن
المفضلات