[frame="7 80"]

إنها شبكة شديدة التعقيد فيها من التبادلات المصلحية ما لا تدركه الأبصار، وفيها تنتعش السياسات الحرام من قبيل شد لي وأقطع لك.. و ما يُخدم بخيل .. و اخدِم تُخدَم و سَم طال عمرك



الأستاذ حسين العلق

في الوقت الذي يقام فيه العزاء تحت أضواء الفضائيات والصحافة الدولية والمحلية اثر رحيل الملك، تقام هنالك سرادقات عزاء ومآتم أخرى في مثل هذا الوقت من كل عام في بيوت كثيرة في الوطن، لكنها أبعد ما تكون عن أضواء الفضائيات والصحافة، فالمتسبب فيها يرتكب جريمته بدم بارد وبصمت مطبق ليتجرع بعدها الضحايا كل آلام الدنيا. وإذا كانت مصيبة الموت حتم على رقاب العباد وسرعان ما تلتقط بعدها الأنفاس وتعود الأمور إلى نصابها فور انتهاء التعازي، فإن مآتمنا المذكورة لا عزاء فيها ولا يجبر كسرها جابر

نتابع منذ أيام قصة الطالبة الثانية في سلم المتفوقات في الثانوية العامة على مستوى المملكة أمل أبو السعود وزميلتها الخامسة على المملكة الطالبة روان العبد الجبار.. وحرمانهن من مقاعد جامعية، والحقيقة أن قصة هاتين الطالبتين تختزل كل ما يمكن أن يسكبه القلم في الحديث عن الفساد الإداري وتفشي المحسوبية ووباء الواسطة غير البعيدة عن التمييز الطائفي. ولا يملك الواحد إلا أن ينضم لوالدة الطالبة أمل متسائلاً معها بعفوية واستغراب لمن تفتح أبواب الجامعة إذن إذا لم تقبل العشر الأوائل على المملكة؟

المسألة برأيي -غير المتواضع- أن عوامل عديدة تقف خلف بيوت العزاء المقامة في بيوت الطالبات المتفوقات وما يجري فيها من أنهار الدموع وما لا يعلمه إلا الله من آلام نفسية، إلا إن عاملاً رئيسياً مسكوتاً عنه على الدوام ويعتبر أحد أعمدة المأساة تلك وهو اللاعب الأهم خلف كل ذلك، ألا وهو مافيا المقاعد الجامعية.. أجل، هذه المافيا التي تنشط عادة في هذه الأوقات من السنة هي التي تتحمل قسطاً وافراً من المسؤولية. هذه المافيا أو قل المافيات ان شئت، تشبه الى حد بعيد الإخطبوط الذي يمتد بأذرعه الطويلة إلى أقصى ما يتخيله المرء، في عقر مراكز القبول والتقديم في الجامعات والكليات والمعاهد، و مكاتب المعيدين وصولاً إلى ما هو أبعد من ذلك صعوداً الى قلب وزارة التعليم والتعليم العالي، ولا يشبهه في ذلك ربما إلا مافيا «نقل المعلمات بين المناطق»، وما سواها من مافيات لا يعلمها إلا رب الأرباب.. حتى ليخيل للمرء أحياناً أن لدينا أكثر من حراج بن قاسم واحد يتاجر في كل شيء في هذا البلد

وتكمن خطورة مافيا المقاعد الجامعية هذه في أنها لا تقيم وزناً لأحد فهي كما يقولون «واصلة»، ولذلك فإن أسهل ما يكون عندها هو تمزيق أوراق طالبة متفوقة «كذا» كما حصل للطالبة «دعاء» في جامعة الفيصل، أو حتى استبدال قائمة من الطالبات المقبولات بأخرى «مسنودة» كما في قصة طالبات الكلية الصحية بالدمام في الصيف الماضي وحكايتهم مع «القرص المتمرد»، أو وضع امتحانات قبول لا تُلزم أتباع المافيا إياها بشيء، بل من غير الضروري أصلاً الأخذ بنتائجها مهما كانت كما هو الحال مع أمل وروان

إنها شبكة شديدة التعقيد فيها من التبادلات المصلحية ما لا تدركه الأبصار، وفيها تنتعش السياسات الحرام من قبيل «شد لي وأقطع لك».. و«ما يُخدم بخيل».. و«اخدِم تُخدَم» و«سَم طال عمرك» وما إلى ذلك من مصطلحات هذا القاموس المريب، وهي في بعض أوجهها بورصة جديدة هذا أوانها، تبدأ بـ «بوس الخشوم»، ولا تتأثر بتذبذب حركة السوق. وفي هذه السوق الرائجة أيضاً ما يشيب له رأس الولدان من الأخذ والعطاء وتبادل الخدمات ما لا تستوعبه مقالة قد يقرأها غير البالغين

مخطئ من يظن أن وراء أحزان أمل أبو السعود أو روان العبد الجبار أو دعاء أو نرجس أو سمر وغيرهن الكثير.. أقول مخطئ من يظن أن وراء مآسيهن دائماً يقبع شبح الطائفية وحده، أبداً، هذا الشبح الهلامي لا يغيب عن كثير من الحالات بالطبع.. لكن يا سادة هناك يقف خلف دموع بناتنا أشباح أخرى ليست سياسة العرض والطلب بين الرؤوس الكبيرة، والقبلية، والمناطقية والطبقية.. عنها ببعيد. فليس خافياً مسألة أن هناك مقاطعات قبلية داخل بعض مؤسسات الدولة تتحدد دائماً تبعاً لقبيلة رئيس تلك الدائرة، وقطاعات حكومية أخرى اتخذت طابع المناطقية تأتي في المرتبة الثانية بعد القبيلة من حيث الأهمية، وقطاعات أخرى مصلحية لا يهمها أمر القبيلة ولا المنطقة ولا الطائفة حتى.. بقدر ما تهمها المصالح الشخصية والمكاسب الفردية فقط وفقط

هنا لا يسعنا الا القول انه من المثير للقرف حقاً أن يتحدث الناس عن أزمة مقاعد جامعية تدفع لهذه السياسة الحرام وتتسبب في ضياع مستقبل بنات وشباب لم يكن ذنبهم إلا أنهم واصلوا الليل بالنهار لبلوغ درجة التفوق، ونحن في بلد يحسدنا على غناه القاصي والداني. ومن المخجل حقاً أن يتغرب أولادنا وبناتنا في الدول الفقيرة -أن توفرت لديهم القدرة المادية- بحثاً عن مقاعد جامعية لا تتوفر في بلد يخرج من جوفه يومياً ملايين البراميل من النفط ، فد يكفي ريعها ليوم واحد فقط لبناء جامعة أو أكثر من أفضل جامعات العالم. والمواطن يسمع مع ذلك كل يوم أن بلدنا يشيد المدارس والمعاهد في جهات الأرض الأربع للجاليات والأقليات هنا وهناك، هذا عدا الدعم السخي المقدم لهذه الجامعة أو تلك في هذا البلد أو ذاك، يسمع أبناؤنا وبناتنا ويشاهدون كل ذلك، ويشاهدون أيضاً في ذات الوقت أعمارهم ومستقبلهم في مهب الريح على أيدي حفنة من المنتفعين في هذه الجامعة أو تلك الكلية، والذين لا دواء للواحد منهم إلا أن يرمى من فوق البرج.. ( و) كل الذين لا يعون مصالح الوطن العليا

فهل تجد والدة الطالبة أمل أبو السعود في ظل العهد الجديد الجواب على سؤالها لمن تفتح أبواب الجامعة إذن إذا لم تقبل العشر الأوائل على المملكة؟[/frame]