بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الكريم القائل, وجعلناكم شعوباً وقبائل, والصلاة والسلام سيد الأكون, صفوة خلقه من ولد عدنان, محمدا صلى الله عليه وعلى آله وصحابة الكرام, وبعد :


مقال لشيخنا النسابة الجغرافي اللغوي الأديب الكبير حمد الجاسر - رحمة الله - : نُشر في المجلة العربية, العدد (220), جمادي الأولى 1416هـ / أيلول – تشرين الأول 1995م, ونشر كذلك في كتابه من سوانح الذكريات, الجزء الثاني, ص969, ونشر أيصا في مجلة العرب (ج 3, 4, س30) رمضان, شوال 1415هـ - آذار, أيار / مارس, أبريل, 1995م .

ولماذا الكتابة عن الأنساب !!

حاورني أخٍ كريم، ذو مكانة مكينة في نفسي، لما يتصف به من علم وفضل وخلق مُتَميِّزٍ، في أحد الموضوعات التي تعنى مجلتي كثيراً بنشر ما يتعلق بها من كتابات منوعة، ومنها من الأبحاث ما يشغل حيَِّزاً واسعاً من صفحاتها، أو يثير كثيراً من تكرار الكتابة عنه، لما ينشأ من اختلاف آراء القراء حوله، مما يعبر بوضوح عن اهتمام الْمُعْنِيَّ بالإشراف على تحرير المجلة به، عناية لم تقف عند حد ما ينشر فيها، بل تجاوزت ذلك إلى تَصَدِّيْهِ للتأليف عن الأنساب، وتناولها بالبحث والدراسة في مؤلفاته الأخرى بتوسع وإِسهاب .

ومن الأمور المدركة بداهةً أن جميع الأمم والشعوب لا تعير الأنساب أي اهتمام، باستثناء سكان جزء محدود في قلب الجزيرة في هذا الوطن الكريم، حيث يبدو الاهتمام بها بين هؤلاء واضحاً في إيجاد فوارق في حياتهم الاجتماعية، وهي فوارق لها آثار أقل ما توصف به أنها لا تقوم على أسس معقولة، بل على عادات وتقاليد متوارثة، منذ أزمنة قديمة، إذ تعمق الباحث فيها أدرك أنه من الأمور التي جاء ديننا الحنيف بالقضاء عليها كغيرها من جميع الأسباب التي يبدو من خلالها استعلاء أو تميز بين طبقة وأخرى، أو بين فرد وآخر من طبقات المجتمع المسلم أو أفراده، ما لم يكن ذلك قائماً على أساس التفاضل بالأعمال
) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( (1), « إن اللَّه قد أذهب عنكم عِبِّيَّةَ الجاهلية، وفخرها بالأَباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي » (2) .

ليس من شك أن استحكام العادات والتقاليد ورسوخها من الصعب القضاء عليها، واجتثاث جذورها، ومن المعروف أن التعاليم الإسلامية في أول عهدها لم تَتَغلغل في نفوس جميع سكان البلاد، وخاصة أبناء البادية في قلب الجزيرة، وفي الصحاري النائية عن مراكز الدعوة الإسلامية، في المدينة وغيرها من قواعد الحكم الإسلامي، كما أخبر اللَّه عز وجل : ) قَالَتِ الأَْعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُل الإِْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ( (3), فكان من جَرَّاءِ عدم مباشرة تلك التعاليم لقلوب هؤلاء بَقاءُ بعض التقاليد الموروثة، مسيطرة على النفوس، ومنها ماله صلة بالحياة الاجتماعية، كالنظرة إلى الأنساب نظرة تمييز، وكما في الحديث « ثلاث في أمتي من أمور الجاهلية الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت » (4) .

ولعل هذا الأمر مما لمحه الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه اللَّه ـ حيث خصص مبحثاً له في كتاب « التوحيد »، وهو من الأمور التي يجب على كل مريد للخير، ومحب لإصلاح أمته أن يسعى ما وسعه السعي، لكي لا تتصف به .
ومن هنا كان مدخل حديث الصديق: ألا ترى أن التأليف في الأنساب مما يوسع الْهُوَّةَ بين طبقات المجتمع ؟! .

قد يدرك القارئ لأول وَهْلَةٍ ما لهذا القول في الصحة من نصيب، ولكن ينبغي أن يلاحظ قبل ذلك من الأمور ما يزيد الموضوع إيضاحاً :
1 ـ النظر إلى الغاية الأولى من التأليف في علم الأنساب .
2 ـ منزلته في تراث الأمة الذي ينبغي الحفاظ عليه، والعناية بحفظه .
3 ـ نظرة سلف الأمة الذين هم القدوة إليه .
4 ـ غاية كل مُؤَلِّفٍ من هذا العلم، وهدفه من التأليف .

أما بالنسبة للأمر الأول فقد كان علم النسب عندالعرب من أسس تاريخهم القديم,
إذا كانت الغاية منه تسجيل مآثرهم، وبيان ما لهم من مناقب ومفاخر، بذكر الْمُبَرِّزِين في كل قبيلة بخصلةٍ من خصال المجد والشرف، كالشجاعة والكرم، وحماية الجار، وغير ذلك من الأمور المحبوبة.

ومن هنا ينظر إلى هذا العلم بصفته متمماً ومكملاً لتاريخ الأمة العربية .
ثم بالنسبة للنظر إليه لموقعة من التراث العربي, فلا تجد أحداً ممن عني بالدراسات التاريخية إِلاَّ وهو يُدرك ماله من قيمةٍ تستلزم الاهتمام به لارتباطه بكثير من العلوم الإسلامية .

ويتضح الأمر الثالث بمعرفة كثرة المهتمين في التأليف فيه، من سلف هذه الأمة ومشاهيرهم، بحيث لم يقتصر ذلك على فئة خاصة من العرب الصريحي النسب، بل شاركهم في ذالك علماء أَجِلاَّء، لهم مكانتهم بين علماءالمسلمين ديانةً وعلماً وخلقاً، وحسبك بأمثال أبي عُبَيْدٍ القاسم بن سلام (224/338هـ) مؤلف كتاب « النسب » وبأبي محمد علي بن حزم الأندلسي (384/456هـ) وغيرهما من أجلة العلماء ممن لا يتسع المجال لسرد أسمائهم .

ولقد أوضحَ الإِمام ابن حزم في مقدمة كتابه « جمهرة أنساب العرب » ما فهمه من مدلول الآية الكريمة ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (, فقال : ( وإِن كان اللَّه قد حكم بأن الأكرم هو الأتقى، ولو أنه ابنُ زِنْجِيَّةٍ لِغَيَّةٍ، وأن العاصي والكافر محطوط الدرجة، ولو أنه ابن نبيين، فقد جعل لتعارف الناس بأنسابهم غَرَضاً له في خلقه إِيَّانا شعوباً وقبائل، فوجب بذلك أن علم النسب علم جليل رفيع ) .

وإِذَنْ فالتأليف في علم النسب متى كان مقصوداً به الاهتمام بتاريخ الأمة من جميع نواحيه فهو من الأمور المحمودة .

ويأتي الأمر الرابع : وهو ما أوضحه الصديق بقوله: هناك طبقة في المجتمع لا يهتمون بأنسابهم، اهتماماً يحملهم على العناية بها، فهم في هذا كغيرهم من مختلف الشعوب في جميع الأمم يرون عدم أهمية ذلك، وليست هذه الطبقة مجهولة الانتساب إلى الأمة العربية دَماً ووطَناً ولغةً واتفاقاً في الغايات والمقاصد، ولا مغموطة الحق في أداء ما عليها من واجبات دينية، أو خُلقِيَّة أو وطنية، وقد يحدث بين أحد أفراد هؤلاء وبين غيره ممن له عناية بالأنساب مما ينشأَ عنه من التنافر ما يوغر الصدور، وقد يكون ذلك من أثر ما لهذه المؤلفات التي انتشرت هذه الأيام، مع اهتمام بعض الصحف بنشر ما يتعلق من ذلك .

من هنا اتضح لي ضرورة إِزالة ما علق في ذهن هذا الصديق الكريم أو غيره من القراء حول اتجاهي في الآوِنة الأخيرة للاهتمام بهذا الموضوع، وذلك بإيضاح جوانب حياله :

الأول : أنني نظرت إلى علم الأنساب نظرةً عامَّةً فرأيت قوة ارتباطه بتراث الأمة، ومن هنا كانت نظرتي مجردة من كل غاية لا تهدف لخدمة التراث، وكنت أدرك أن من بين ذلك التراث ما ليس جديراً بالاهتمام به في هذه الأزمنة لعدم الحاجة إليه، بخلاف هذا العلم الذي يحتاج إِليه كل باحث في أي علم من العلوم, من تفسير، وحديث, وفقه، وتاريخ، وأَدب، ولغة .

الثاني : أنني أدركت أن بعض من تصدَّى للتأليف فيه وقعت منه أخطاء لا يصح التغاضي عنها ممن أدركها، بل بلغ الأمر إلى أن كثيراً ممن تصدى لذلك ليس أهلاً له، فرأيت أنني قد أُقَدِّمُ لمن لا يزال متعلقاً به ما يصح الاعتماد عليه، فكان أن أَلفت كتابين أحدهما : « معجم قبائل المملكة العربية السعودية » حاوياً جُلَّ ما هو متعارف عن أنساب القبائل التي لم تتحضر بَعْدُ، من أبناء البادية, والثاني : « جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد » .

وأنا في الكتابين لست سوى ناقل لما هو متداول ومعروف، مِمَّا لا يُؤَثِّرُ في إضعاف روابط المجتمع، بل يزيدها تماسكاً .

الثالث : أنني حاولت في الكتابين وفي غيرهما مما كنت أنشره في « العرب » وغيرها من أبحاث في الموضوع أن أزيل كثيراً من الأوهام التي أُلْصِقَتْ ببعض القبائل، مع التعمق في دراسة أنسابها حتى تمكنت من إثباتها على الوجه المرضيَّ، مما دفع بعضهم إلى النيل مني في مؤلفات مطبوعة، بل لقد كان من أثر ذلك أن بعضهم غضب علي حين كتبت بحثاً يتعلق بالأنساب مما لا داعي لذكرة .

ولا أبالغ إذَا قلت بأن علم النسب لا يقوم على أسس علمية صحيحة، فما هو سوى موروث الأجداد للأحفاد فمن بعدهم، مما يعتمد على الذاكرة والعاطفة، وهما ليستا مُؤْتَمَنَتَيْن دائماً (5) .

وكنت فكرت في تأليف قسم ثالث عن أنساب بعض الأُسَرِ والقبائل الحديثة لمحاولة إرجاع بعضها إلى أصول قديمة، ولإثبات أنساب أُسَرٍ تُعَدُّ مجهولة النسب، أو مغمورة، غير أنني رأيت فتح هذا الباب قد يثير تساؤلات كثيرة، أنا في غني عنها، ومع ذلك فقد أثبتُّ في مقدمة كتاب « جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد » رأيي في كثير من الأسر المجهولة النسب حين قلت : إِنِّنِيْ أَعْتَقِدُ جَازِماً أَنَّ كُلَّ أُسْرَةٍ نجديَّةِ، كَانَتْ تُقِيْمُ فِي هَذِه الْبِلادِ قَبْلَ أَنْ يَتِمُّ الاتِّصَالُ بِالْعَالَمِ الخارجيِّ بعد مُنْتَصَفِ القرن الرابع عشر الهجري، كُلُّ أُسْرَةٍ ذاتُ أَصْلٍ عَرَبيًّ صَحِيْحٍ، إِمَّا بِصِلَةِ نَسَبٍ أَوْ بحِلْفٍ أَوْ وَلاءٍ، وكل هذه الأُمُور تُبْنَى عَلَيْهَا صِحَّةُ الْنَّسَب مِنْذُ أَقْدَمِ الْعُصُوْر، وَلَكِنَّ كثيراً من تلك الأُسَرِ جَهِلَتْ أُصُوْلَهَا لأَسْبَاب كَثِيْرة .

حتى الموالي ذكرت انصهارها في المجتمع العربي، فأصبحت عربية اللغة والخُلُق والوطن لها كل الحقوق التي لغيرها من سكان هذا الوطن الكريم .
ولن أجانب الحقيقة حين أقول : بأنني حاولتُ في جميع ما كتبت، مما يتعلق بالأنساب إبراز جانبين :

أولهما : أن الأمة العربية جميعها وحدة متماسكة، على تعدد قبائلها، وتفرقها في
بلادها، وما امتزج فيها من عناصر اندمجت فيها وامتزجت، بحيث انعدمت الفوارق والمميزات، ومن كل ذلك تَكَوَّنَ هذا الكيان العظيم، كيان هذه الأمة، التي شرفها اللَّه على من سواها بأن اختار منها خير خلقه، الذي اصطفاه لرسالته إِلى الناس أجمعين، وأنزل بلغتها أشرف كتبه، واختار موقع بيته الكريم الذي فرض حجه على كل مسلم في بلادها، وأناط نشر الدعوة للهداية والصلاح بالرعيل الأول من سلفها الصالح، فميزها بذالك على غيرها من أمم العالم .

ثانيهما : أنني حاولت فيما كتبت، وفق ما استطعت سدَّ الثغَرَات التي قد ينشأ عنها ما يؤثر في ذلك الكيان، مما قد يحدث حزازات أو ضغائن في بعض النفوس، من إبراز فوارق أو مميزات، أو مغامز أو عيوب، لأنني نظرت إلى الموضوع نظرةً أَعَمَّ وأشمل من كونه متعلقاً بإثبات نسب ما، ولكن لكونه وسيلة من وسائل إيجاد الروابط القوية بين القبائل والأسر، لينشأ التعارف الموجب للصلة والتقارب، اللذين بهما تقوم حياة المجتمع؛ في ذالك الكيان على أُسسٍ من المحبة والأُخُوَّة .

أفتراني ـ والأمر كما أوضحت ـ خالفت نهجاً سلكه من علماء هذه الأمة من يحسن الاقتداء بهم، والسير على طريقهم ؟
لقد أَردتُّ ما هو خير، فبذلت الوسع : ( وَمَنْ ذَا الذي تُرْضَى سجاياه كلها ) ! .

الحواشي :
1. سورة الحجرات الآية 13 .
2. رواه الإمام أحمد وأبو داوود والبيهقي كما في « الجامع الكبير » للسيوطي ص 172 .
3. سورة الحجرات الآية 14 .
4. رواه الضياء المقدسي عن أنس كما في « الجامع الكبير » ص 484 .
5. يقول ابن غنيم الجهني : ليس الأمر هكذا على إطلاقه, إنما يحتاج إلى تخصيص ووقفة بعض الشيء, فليس كل من يكتب في النسب إعتماده على الموروث الشعبي والروايات العامية المغلوطة, بل أرى أن أكثر من طرقوا هذا الباب وحشوا كتاب النسب بالقصص وروايات النهب والسلب في القرون المتأخرة هم جهلة عوام مرتزقة, لا يكاد أحدهم يحسن الكتابة, وإلا لما أساء إلى تلك القبيلة التي ينتمي إليها بنشره قصص النهب والسلب والتفاخر بالقتل, فأي تأريخ ونسب يا هاذا ؟؟, والعجيب أن غالبية هؤلاء المنتحلون العلم لا تجد لأحدهم مصنفاً آخر بل هو كبيضة الديك !! .

نشرناها بتاريخ : 3 / 10 / 1429 للهجرة المباركة .

[/QUOTE]