تعتبر القصة أو الأسلوب القصصي من الأساليب القديمة لنقل الخبرات وتوجيه الأفكار وفي عالم التربية تبقى من أقوى الوسائل التعليمية ومن أكثر التقنيات التربوية تحقيقاً للأهداف كونها تضع الخبرات الجديدة والأفكار في قالب محبب للنفس لا يخلو من التشويق ويبتعد عن الأسلوب القديم من وجود طالب ومعلم ومعلومة تدور بينهما وطرق للقياس والتقويم ، ومن أوسع مجالات استخدام القصة ، النقد وتشريح الواقع فهي توفر على الناقد المواجهة وتعطيه الفرصة لإحداث التغيير المطلوب دون إجبار بطريقة ما بال أقوام والتي انتهجها الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه فمن جهة يكون المقال غير موجه لشخص بعينه حتى يتولى الدفاع عن نفسه ، بحق أو بباطل ومن جهة أخرى فإن ما يحكى أو يقص يلامس واقع هو يدركه وملزم بتغييره من تلقاء نفسه قبل أن يواجه بالنقد المباشر ، كل ذلك يدعوني لأحكي لكم قصة هذه أول فصولها /
لم استطع أن أنام تلك الليلة وأصبت بأرق شديد لانشغالي كثيراً بتفكير ، فغداً هو أول يوم أذهب فيه لزيارة مدرسة بعد انضمامي للإشراف التربوي ، لا أدري لماذا قفزت إلى ذاكرتي صورة كنت أكرهها جداً وهي صورة ذلك المشرف التربوي الذي يقف بانتظاري في الصباح والابتسامة تعلو محياه وهو ينظر إلى ساعته بطرف خفي كي أشعر بأول سلبية وهي التأخر ، لا أدري هل أنا محق في إحساسي بالفرحة التي كانت تظهر عليه كونه حصل على أول سلبية قبل أن يبدأ الزيارة ، لم أنسى كذلك أنني كنت أشفق عليه كثيراً وأخشى أن لا يوفق في حصر عدد مناسب من السلبيات التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الزيارة ، لم أشعر وقتها بحاجته إلى تسجيل الايجابيات ، كنت أكره هذا اليوم ولا أعلم سبب لما يحدث لي إلا أنني متأكد من شيء واحد هو كرهي لهذا المشرف ، قد يكون سبب هذا الشعور هو أن رؤيتي له تشعرني بالنقص وقد يكون لأني لا أرضى أن أتحرك إلا وفق قناعاتي أو لأنه رغم حرصي الشديد يهزمني في كل مره باكتشافه العديد من الأخطاء التي لم يجدها في المرة السابقة وكان ينتابني أحساس بأني واقع تحت مخطط عدواني فهذه الأخطاء التي لم تذكر لي من قبل لابد أنه اكتشفها من أول زيارة فهي ليست وليدة اللحظة فأنا أمارس هذه الأخطاء منذُ ثلاث سنوات وهو شاهدها أنا متأكد من ذلك لماذا لم يواجهني بها ، إذاً هو تعمد توزيعها على عدد زياراته حتى يجد ما يلمع صورته أمام رؤساؤه وحتى لا تصبح زيارته عديمة الفائدة ، لم أكن أستطيع أن أخذها على المحمل الحسن فلا يعقل أنه في كل مرة يزداد خبرة وتبصراً فعلوم التربية ليست من المكتشفات والاختراعات التي تتجدد بشكل مطرد في كل ثانية على مستوى العالم فهي من أجمد العلوم ولولا فذلكتنا وسعي البعض لملأ المكتبات بالغث والسمين من المؤلفات والترجمات الحرفية المملة لما وجدت أكثر من مؤلف واحد لكل عشرة أو عشرون سنة وكذلك لا يمكن أن يكتسب هذه الخبرات من خلال مروره على باقي الزملاء فهو ليس كذلك أنه لا يرضى بأكثر من قناعاته ، أو أكون أنا سيء لهذه الدرجة بحيث أصبح حقل تجارب لأفكار باقي زملائي وهل يعقل أنا الخبرات تستقى من جميع من في الميدان إلى أنا لا يحصد في حقلي إلا الشوك هل أستطيع أن أخاصم نفسي وأحملها كل الأخطاء كي أبرأ ساحته ، إن هذه الأفكار تزيدني حنقاً وكرهاً ولابد أن انحاز لنفسي فما لدي من أخطاء هي نتاج طبيعي لأي عمل فمن منا لا يخطي وهل هذه الأخطاء تستوجب كل هذه الزيارات التفتيشية .
أه لا أحب أن استرجع هذه الصورة ، كيف نسيتها وأنا أتقدم لاختبارات القبول في الإشراف التربوي أو يكون سرى بداخلي حب الانتقام أم أنني من الباحثين عن المكانة الاجتماعية والتي قد تتوفر من خلال هذا العمل ولكن هذا يخالف قناعاتي فالإنسان يستطيع أن يبدع ويتفوق في أي عمل صغر أم كبر ومثل هذا الميزان للنجاح لا يقر به غير الفاشلين ، إذاً لماذا قبلت بخوض هذه التجربة ، أُه تذكرت إن السبب يكمن في ذلك الكتاب الذي تصفحته وكان يحوي الكثير عن مهام المشرف التربوي والتي لم أجد فيها أي من تلك الصورة القاتمة ،ولما إذاً الخوف ؟!
ياه ... أصبحت أهذي كثيراً وبدت أمواج فكري تتلاطم وتغرقني في حيرة لا أعلم كيف أخرج منها .
إن هذه الخواطر إذا قورنت بذلك البرنامج التدريبي المصغر الذي أعطي لنا قبل أيام وما تم فيه من إسهاب في الحديث عن التقرير الأسبوعي لزيارات المشرف وبالرغم مما حوى البرنامج من أساليب إشرافية وخلافه إلى أنه انتابني إحساس بأني عميل علني لمخابرات أجنبية يتلخص دوري في إمداد مركز المعلومات الاستخباراتية بكل ما يستجد في الميدان حتى يستطيع الرؤساء اتخاذ القرارات المناسبة وتكوين صورة متكاملة عن جميع العاملين في الميدان ويكاد ينحصر ما أقوم به في هذا المطلب الأساسي ولا مانع من تجميل الصورة بعدد من الأساليب الإشرافية المقررة سلفاً والبعيدة كلياً عن احتياج الميدان الفعلي ، حقيقة لم أشعر بأن المحاضرين حريصين على بناء علاقات جيدة وإن كان الحديث قد دار حول هكذا موضوع ، ولكن لم يظهر ذلك الاهتمام الذي يوازي ما لها من أهمية قصوى كما يرى باعتبارها القاعدة التي يبنى عليها نجاح أو فشل أي مشرف إذا فهمنا أن عمله يرتكز على التغيير والذي من المفترض أن يكون ايجابي وهذا المطلب لا يمكن تطبيقه بدون بناء العلاقات الجيدة والتي تعتبر في مقام الجسر الذي يسمح بوصول الإمدادات إلى الشط الآخر فهل يعقل أن نركز على الإمدادات ونهتم بها ونحاول التأكد من صلاحيتها ونغفل أن الجسر لم ينصب بعد أو أنه تعرض لحملة جوية أحالته إلى ركام ، حقيقة أنا أمل من التنظير وأشعر أحياناً أنه مضيعة للوقت الذي من المفترض أن يصرف في العمل مباشرة ولكن بعض الأمور تستوقفك دون أن تشعر وتلزمك بالتحدث ، والتنظير عامة هو أول خيوط التغيير إذا حسنت النية .
أشعر الآن بأن ظلمتُ زميلي المشرف فهو مجد في عمله ويحاول التفوق فيه ولا يعاب عليه سوى عدم فهمه لمتطلباته وعدم سعيه للاستزادة في هذا المجال دون الاعتماد بشكل كلي على رئيسه والذي هو ضحية لفكر رئيسه السابق وهكذا نضل ندور في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها إلا بوجود شخص متمرد يحيل التراب على هذا الفكر المتحجر ويسعى لغرس نبته جديدة تحمل المواصفات المثالية وتكون قابلة للتغير كلما اقتضت الحاجة وخير طريقاً لذلك الشورى والتجارب الميدانية ودراسة نتائجها دون تحيز والقدرة على اتخاذ القرار المناسب دون التقوقع داخل الأنظمة والقوانين البالية .
تكاد تقتلني الحيرة فمن جانب أنا أسعى بقدمي لغرس الكراهية في من حولي إذا قمت بدور المخبر العلني ومن جانب آخر سوف يلاحقني الفشل إن طبقت ما يدور في خاطري من أفكار ، أليس رئيسي هو من يقرر نجاحي من عدمه وهذا بالطبع لن يكون إلا بسماع الأوامر أولاً والتقيد بالتعليمات ، الست أسعى إلى إعطائه تقرير خالي من السلبيات وكيف لي أن أقنعه بأن السلبيات تخصني بالدرجة الأولى لأني أنا من سيعالجها فهل يعقل أن يقوم الطبيب بفضح أسرار مرضاه وهو قد أقسم بعد التخرج على عكس ذلك ، أليس الطبيب يغير بإذن الله من حالة المرض إلى الصحة وكذلك المشرف يحاول بإذن الله التغيير بعلاج السلبيات ( المرض ) والإكثار من الايجابيات ( الصحة ) ، كيف لي أن أقنعه بأني سأطلعه في نهاية الأمر على ما قمت به من عمل وسأذكر له بعض نواحي الخلل وكيفية علاجها ، ألا يستطيع أن يقيس نجاحي بدراسة التأثير الذي أحدثه في الميدان ! ألا يمكن الوثوق بي وبعملي بدون هذا التقرير !! وكيف لا يحدث ذلك وأنا قد مررت بأكثر من وسيلة فرز من رأي مدير المدرسة ورأي المشرف التربوي والاختبارات التحريرية والمقابلة الشخصية ، أبعد هذا كله لابد أن أتابع أسبوعياً وكيف يكون ذلك والوزير يقول عنا أننا صفوة الصفوة كون المعلم هو صفوة المجتمع والمشرف صفوة المعلمين ، ليتك تعلم أننا أصبحنا مخبرين بشكل علني بحيث نرى الكره في أعين كل من نقابله ، عذراً سيادة الوزير لأستطيع أن أنام إلا بعد كتابة خطاب إعفائي من هذا الدور .
مشرف تائب ...
[/CENTER][/B][/SIZE]