[B]2 ـ الإيماء والإيحاء

اتخذ التخييل من الإيماء والإيحاء وسيلة أو أداة وعنصراً قام عليهما، وأتى الشعراء بوساطتهما بمعانٍ وأفكار جديدة مقتصدين ومختصرين؛ إذ إن هذين العنصرين يحملان ـ لغوياً ـ معنى الإشارة والكلام الخفي، ففي (ومأ) يقال: ((أومأت إليه: أشرت))([40])، ويتضمن الإيحاء، فضلاً عن الإشارة، الإلهام والكلام الخفي([41])، ويقع في الكلام على سبيل الرمز والتعريض، لا التصريح([42]).

وكان النقاد يعبرون عن الإيماء بالإشارة والكناية والتعريض([43]). وهو اصطلاحاً يعني "إلقاء المعنى في النفس بخفاء وسرعة"([44]) دون تصريح كما هي الحال في التشبيه البليغ والكناية خاصة؛ إذ يكون في المكنَّى به إشارة غير خفية إلى المكنَّى عنه([45]).

أما الإيحاء فهو "استمداد المعاني والأخيلة من موجودات حسية مؤثرة في نفس الأديب والفن"([46]) فيتلقاها السامع وتؤثر فيه، وترسم في ذهنه معاني وأخيلة مثلما هي الحال عند مبدعها، فالكلمة الواحدة في الإيحاء تعطي معاني كثيرة إضافة إلى معناها الحرفي([47]).

ومن الطرق الخاصة بالعرب الاختصار في التشبيه، ويعدّ هذا من الإيماء، كتشبيه لون اللبن بالذئب ـ كما جاء عن المبرد([48]).

وفي الاستعارة إيحاء رمزي ونفسي ومادي وأدبي؛ فكل استعارة ترمز إلى شيء، وتوحي بشيء، وتعبر عن شيء مرتبط بذات المبدع وبالسياق وبالمحيط الخارجي. ويأتي الإيحاء المادي من العلاقة بين الحسي والذهني مرتبطة بالعواطف والمشاعر والأحاسيس([49]).

ولكن ينبغي على الشعراء عدم الإسراف في استخدام الإيماء والإيحاء في استعاراتهم؛ وعليهم الاعتدال لئلا يبتعدوا عن غايتهم في التواصل والتأثير في الآخرين([50])، ويخرج كلامهم إلى نوع من الرموز والألغاز غير المفهومة([51]).

ولا يقتصر هذا على الاستعارة، بل يتعداه إلى التشبيه؛ إذ يساعد الإيماء في إحداث الصور التي تؤثر في عواطف الإنسان وحياته([52]).

والإيماء والإيحاء ضروريان في الشعر؛ إذ يرجع جمال الشعر إلى ما فيه من إيحاء([53])، وكلما كانت الصورة فيه مجملة عميقة قليلة التفصيل، وبحاجة إلى التفكير والتأمل، زاد هذا في تأثيرها([54])؛ فـ ((قوة الشعر تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور، لا في التصريح بالأفكار مجردة، ولا في المبالغة في وصفها، ومدار الإيحاء على التعبير عن التجربة ودقائقها، لا على تسمية ما تولده في النفس من عواطف))([55])، وبالإيحاء تسترجع الكلمات "قوة معانيها التصويرية والفطرية في اللغة"([56]).

وقد اتخذ أبو العتاهية من الإيماء والإيحاء وسيلة في تخييلاته لإيصال أفكاره ومشاعره إلى الآخرين ولا سيما أنه خاطب مجتمعه بما يفهمه ويعايشه أهله وخاصة أمور الحياة والموت وما بعد الموت في الوعظ والاعتبار؛ فنجده مثلاً يخاطب القبر ويحاوره، يريد أن يتبين مصير الناس عامة بعد الموت ونزولهم القبر، ويومئ ببعض مفرداته وصوره إلى أولئك الناس الذين كانوا يعيشون في نعيم وترف وغنى ورفاهية؛ يقول([57]):

إني سألتُ القبرَ ما فعلَتْ



بعدي وجوهٌ فيك مُنَعفِرَهْ



فأجابني صيَّرت ريحَهُمْ



تؤذيك بعدَ روائحٍ عَطِرَهْ



وأكلتُ أجساداً مُنَعَّمَة



كان النعيم يهزّها نضِرَهْ



لم أبق غير جماجمٍ عَرِيَتْ



بيضِ تلوحُ وأعظمِ نخِرَهْ




فالشاعر هنا أراد أن يعظ الناس بالعمل للآخرة والاستعداد لها، وأراد أن يخصّ منهم أولئك الناس المتنعمين بلذات الحياة وخيراتها وزينتها من لباس وعطر وغير ذلك، فأومأ إلى هذا بقوله (بعد روائح عطرة ـ أكلت أجساداً منعمة ـ كان النعيم يهز نضرة ـ جماجم عريَت بيض ـ أعظم نخرة...)/ زالت كل زينة وأثر من آثار النعمة، وجاء بهذا المعنى أي زوال النعم وعدم بقائها والرجوع إلى الخلقة الأولى ـ عن طريق هذا الإيحاء والتخييل بالصورة الفنية، وهو بهذا التخييل القائم على الإيماء والإيحاء قرّب المعنى إلى المتلقي بالتعريض والكناية لا التصريح، فالوجوه يعفّرها التراب، وفي هذا شيء من الذل والإهانة والضعف، والروائح كريهة جداً فهي ضارة تؤذي وتسبب المرض لمن يشمها، والأجسام تآكلت وراحت عنها النعمة والنضارة ـ وتجلت لنا الصورة الأخيرة التي صار عليها الناس: صورة لهيكل عظمي، لا لحم ولا شعر ولا جلد عليه، حتى العظام فإنها نخرة خاوية.

ويقول حاضاً على فعل الخير للحصول على الخير، فمن زرع خيراً حصد خيراً، لكنه لم يصرّح بهذا صراحة، وإنما خيل إلينا وصوّر فأومأ وأوحى([58]):

الحمد لله حيثما زَرَعَ الخيرَ



امرؤ طاب زرعُهُ وزكا



لا تجتني الطيبات يوماً من الغَرْ



سِ يَدٌ كان غرْسُها الحسكا




فالبيت الثاني يؤكد لنا المعنى الذي جاء به في البيت الأول إيماء، مستخدماً التمثيل والتخييل الذي يؤثر في المتلقي أكثر؛ لأنه يجعله يفكر ويتأمل ويقارن بين الحالين، ومن ثم يصل إلى المعنى المراد، وفي هذا التأمل والتفكير تقوية للمعنى وإثارة للخيال والصورة في ذهن المتلقي.

ويوحي الشاعر إلى ما تفعله المزحة عن طريق الكلمة من أثر في سامعها ومتلقيها، فقد تكون ضارة مؤذية تحدث جروحاً في شعور من ألقيت إليه وقد تكون أحياناً قاتلة، فنجده يومئ إلى هذا كله بتخييل عن طريق التشبيه قائلاً([59]):

ولَرُبَّ مزحة صادقٍ بَرَزَتْ



في لفظةٍ وكأنها أفعى




فهذه المزحة تلدغ كلدغ الأفعى، فكأنها تحمل سماً ضاراً يؤذي ويقتل دون أن يشعر صاحبها بأثرها هذا.

وكذا الحال في حديثه عن الذنوب والخطايا وما لها من أثر نفسي ووقع بشع بعيد عن الحق والخير، فالقلوب أصابها البلى من كثرة الذنوب والآثام، وأصبحت كأنها جروح متقرحة نتنة لها رائحة كريهة وأوحى إلى هذا المعنى في بيتين، يقول([60]):

كيف إصلاحُ قُلوبٍ



إنما هُنَّ قُرُوحُ



أحسن اللهُ بنا



أن الخطايا لا تفوحُ




اقتصر بقولـه: /أن الخطايا لا تفوح/ عن تلك الرائحة النتنة البشعة التي يمكن أن تصدر عن الخطايا وتصيب الناس بالأذى والضرر، وأوحى إلى فضل الله علينا بأن لم يجعل للخطايا رائحة تفوح بقوله: (أحسن الله بنا).

وهكذا كانت تخييلات أبي العتاهية في وعظه الناس وتقديمه العبرة لهم عن طريق الإيماء والإيحاء أكثر وقعاً وتأثيراً في المتلقي، بخلاف لو أنه اعتمد التصريح والحقيقة المباشرة، مع أنه لم يغالِ كثيراً فيها فهي قريبة إلى الواقع والحقيقة ولكن جمّلها التخييل والتصوير القائمين على الإيماء والإيحاء.

3 ـ المبالغة والتوسع

يقوم التخييل على عنصر ثالث مهم، وهو توسع الشعراء في معانيهم ومبالغتهم فيها للتأثير في المتلقي، والوصول بالمعاني إلى صورة مثالية تتضمن أسمى المعاني وأرقاها في الأغراض الشعرية المختلفة.

وتأتي المبالغة لغوياً ـ من عدم التقصير في فعل الشيء([61])، والاجتهاد في الأمر([62]).

أما التوسع فهو ضد الضيق([63])، ويدل استخدامه في الكلام على احتمال تأويلات مختلفة بحسب المتلقي أو معاني الألفاظ([64]).

وتدل المبالغة ـ اصطلاحاً ـ على الزيادة في معنى الكلام ووصفه على غير ما هو عليه في الواقع، وكأنها تخرجه إلى الاستحالة([65])، متضمنة المغالاة والإيهام بأن المتكلم ملم بأطراف الموضوع([66])، مع مراعاة الذوق السليم.

وتترادف مع الإغراق والغلو؛ فالإغراق نوع من المبالغة، فوقها ودون الغلوّ وبينه وبين المبالغة فرق، فهي تقترن بكاد وما شابهها مما يقربها إلى الحقيقة، أما الغلوّ فيبتعد عن الحقيقة([67]).

وتبقى المبالغة حسنة ومحببة كلما ابتعدت عن الاستحالة والغلو.

والجاحظ وقف موقف الاقتصاد في المبالغة بين الإفراط والتفريط([68])، وكذا الحال عند أبي العباس ثعلب فخير الأمور أوساطها([69])، ورأى المرزباني أن المبالغة أحسن من الاقتصار على الأمر الوسط([70])، واشترط ابن سنان الخفاجي وقوع كاد وما جرى مجراها([71]). أما ابن الأثير فقد نصر المبالغة؛ لأن أحسن الشعر أكذبه بل أصدقه أكذبه([72]).

وهكذا فالمبالغة واقعة ومقبولة لا محالة؛ لوجودها في القرآن الكريم وفي البيان، ولكن يشترط فيها التوسط فلا إفراط ولا تفريط؛ فيُقبل منها ما يجعل الكلام لطيفاً عذباً قريباً إلى النفوس محبباً([73]).

ولا يمكن رفضها لاقترانها بالكذب ومنافاتها الصدق؛ فهي ليست كذباً، فغايتها زيادة المعنى وتقويته لا تزييفه وقلب الحقائق وتغييرها؛ فهي تعبر عن العواطف التي تقصر اللغة عن التعبير عنها([74]).

وقد قبل كثر من النقاد الكذب في الشعر من قبل المبالغة([75])؛ لأن الشعراء غير مطالبين بتقديم حقائق عقلية منطقية، بل مهمتهم التخييل([76]).

والمبالغة أولاً وأخيراً من مذاهب العرب رغبة في التوسع في الكلام([77])، فبها يقبل الممتنع، ويُرفض المستحيل؛ لأن المستحيل لا يقع لا في الواقع ولا في الوهم، أما الممتنع فيمكن تصوره في الوهم([78])، وعندئذ يصح وقوع الممتنع موقع الجائز في الشعر([79]).

وتفيد المبالغة زيادة في المعنى بحسب الغرض الذي يؤديه الشاعر مدحاً كان أو ذماً، فتجعل المعنى أحسن مما هو عليه أو أقبح([80]).

وكان لها عند النقاد تعريفات مختلفة([81]) فهي تفيد عموماً زيادة في المعنى والوصف، وهي مرتبطة بالاستعارة أكثر من غيرها من الفنون البيانية لأن الغرض من الاستعارة بالخروج عن الحقيقة إنما هو المبالغ في المعنى، وأبلغ أنواع الاستعارة هو الترشيح لبنائه على تناسي التشبيه([82]).

وكذا الحال في الاستعارة التمثيلية([83])، والمجاز المرسل([84]) فبلاغته في إعطاء الكلام القوة بالإيجاز الذي فيه؛ كقولنا: فلان فم؛ أي يلتهم كل شيء؛ فهذا المجاز صوّره وكأن يده ورجله وعينه وأنفه كلها صارت فماً يلتقط الطعام([85]).

وفي المجاز العقلي أيضاً تفخيم للمعنى وتأثير أكبر مما هي عليه في الحقيقة([86]). والمجاز عموماً أبلغ من الحقيقة([87]).

ويتضمن التشبيه المبالغة، والشواهد التي أعجب بها النقاد كثيرة لما فيها من مبالغة([88])، ولكن لا يتم هذا "إلا إذا كان المشبه به أدخل في المعنى الجامع بينهما... فإن لم يكن الأمر على ما قلناه من الزيادة كان التشبيه ناقصاً وكان معيباً ولم يكن دالاً على البلاغة"([89]).

ولا تخلو الكناية من المبالغة أيضاً، وتأتيها من طريق إثبات المعنى وتقريره، وليس في المعنى نفسه([90])؛ أي في تأكيد المعنى وإثباته، وليس أننا زدنا المعنى في ذاته في قولهم: جم الرماد على الكرم ((إثبات الصفة بإثبات دليلها وإيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد وأبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فتثبتها هكذا ساذجاً غفلاً وذلك أنك لا تدعي شاهد الصفة ودليلها إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه))([91]).



--------------------------------------------------------------------------------

* كلية الآداب، جامعة حلب.
[/B

( يتبع )