[ALIGN=CENTER]ينبع في العهد العثماني:
بعد سقوط حكم المماليك على يد السلطان العثماني في مصر عام923هـ واستقرار الأمر لهم فيها أرسل السلطان العثماني سليم خان إلى الشريف بركات أمير مكة في التسليم بالحكم العثماني، فتجاوب الشريف مع الرسالة السلطانية وأرسل ابنه محمد أبي نمي معلنا ولاءه للحكم الجديد في مصر، وبادله السلطان باستمرار الأمر في الأقطار الحجازية(من خيبر شمال المدينة المنورة إلى حلي جنوباً) فيه وفي ابنه (انظر: محمد بن علي بن فضل الطبري المكي: إتحاف فضلاء الزمن: ، ج2،ص360، والسنجاري: منائح الكرم ،ج3،ص226، والدحلان:خلاصة الكلام ،ص50، وسنوك:صفحات من تاريخ مكة المكرمة، ج1، ص208).
واستمرت ينبع المدينة والميناء تمارس دورها السياسي والعسكري في العهد العثماني (بين السلاطين العثمانيين وأمراء الحج وأشراف مكة)، بينما تولت جدة الدور التجاري حتى أواخر هذا العهد الذي أخذت فيه ينبع في الاختفاء والضمور-إذا صح التعبير- وبروز جدة تجاريا وسياسيا حتى دخول الحكم السعودي، فدخلت ينبع مرحلة جديدة.
ولعل أهم الأحداث التي ارتبطت بينبع في هذا العهد كانت في مجملها حول إمارة مكة والصراع المرير بين الأشراف عليها ، فقد كانت تصل الأوامر السلطانية بالتولية أو الخلع ،وبرفقة الأغا( المندوب السلطاني ) الخلعة أو القفطان الذي يُلبِسه لأحد الأشراف أميراً على مكة، فكانت المحطة الأولى للقاء الخلعة والقفطان ( ينبع ) فيكون اللقاء والصراع والتنافس بين الأشراف على هذه الخلعة، وكما كانت تستقبل الخلعة السلطانية ، كانت تغادر من ينبع وفود الأشراف للقاء السلطان العثماني إما لرفض الشريف الجديد أو لدعمه وتوطيد إمارته ، وما يتسبب ذلك من تنافس وصراع فيحول كل طرف دون ذهاب الطـرف الآخر ، فتحدث الصراعات المسلحة بين الأشراف على ثرى ينبع وقريبا منها.
ولعل من أهم الأحداث الساسية في هذ العهد ، في عام 1039هـ وفي إمارة الشريف أحمد بن عبد المطلب، عزم والٍ عثمانيٌ على اليمن اسمه قانصوه على عزل الأمير أحمد ، فوصل ينبع وهناك التقاه الشريف مسعود بن إدريس ، وطلب منه أن يوليه مكة فوافقه على ذلك، وأعانه على ذلك وقتل الشريف أحمد بن عبد المطلب.
وفي ولاية الشريف سعد بن زيد عام 1077هـ وما تلاها، حصل خلاف شديد على الإمارة بين الشريف سعد والسيد حمود بن عبدالله بن حسن بن أبي نمي، وفي سنة 1078هـ انتقل السيد حمود إلى ينبع وبعث بجماعة من الأشراف منهم السيد محمد بن أحمد الحارث والسيد غالب بن زامل بن عبدالله بن حسن،والسيد أبو القاسم إلى مصر ومعهم هدية سنية إلى عمر باشا صاحب مصر فلما وصلـوا إليه أكرمهم وأبقـاهم عنده، وبعث الباشـا مندوبا للإصلاح ، فأشيع في مصر أن الشريف حمود قتل المندوب المصري، فغضب الباشا وسجن الأشراف الذين لديه بل وقرر قتلهم ،فجرد قوة عسكرية قوامها 500 عسكري ورافقهم 1000 شخص من العامة والتجار،ولما دخلوا ينبع اعترضهم الشريف حمود واقتتل الفريقان قتالا شرسا أسفر عن مقتلة عظيمة في صفوف المصريين واستولى الشريف حمود على ما مع الجيش المصري، وقبض على قائدهم الصنجق يوسف بك وأولاده واتخذهم رهائن مقابل الأشراف المسجونين بمصر، وقتل من الأشراف الشريف بشير بن أحمد والشريف سرور بن حسين والشريف إلياس بن عبدالمنعم ، وبقي القائد المصري سجينا عند الشريف حمود حتى مات. ولما علم أمير مكة بهذه الأحداث جرد حملة عسكرية لمحاربة الشريف حمود وأمر عليها بلال أغا وبعثه إلى ينبع فخرج الشرف حمود من ينبع مع قدوم حملة الشريف سعد ، فاستولى بلال أغا على ينبع وأقام بها. وانتهت الأحداث باستقرار الأمر للشريف سعد بن زيد، بل وصل به الأمر أن عاقب أهل ينبع لمساندتهم حمود وقتل جماعة منهم ، وهدم السور).(انظر الطبري :إتحاف الفضلاء،ج2،ص89-92، والسنجاري: منائح الكرم ،ج4،ص272-282).
وفي العام1101هـ وفي حادثة مشابهة لما سبق، خرج الشريفان مساعد وأخوه دخيل الله ابنا الشريف سعد مغاضبين لشريف مكة آنذاك الشريف أحمد بن غالب ومتوجهين إلى مصر بهدف انتزاع الإمارة منه فوصلا ينبع وأقاما فيها وأخذا يستميلان قبائلها معهما ، حتى وصل بهم أن نادوا للشريف محسن بن الحسين بن زيد، واستولى مساعد على مؤن وحبوب لشريف مكة بينبع ، فوصل قفطان فاستولى عليه الأشراف حتى استقر الأمر أخيراً للشريف محسن بن الحسين أميرا لمكة.(انظر السنجاري، منائح الكرم،ج5،ص95-97، والدحلان:خلاصة الكلام ، ص114).
ومن الأحداث الهامة التي ارتبطت بينبع دخول الجيش المصري في القرن الثالث عشر( في عام 1225هـ) للحجاز لإخراج القوات السعودية(الدولة السعودية الأولى) التي سيطرت على الحجاز منذ عام 1218هـ مع إبقائها للإمارة بيد الأشراف مع فرض ونشر المنهج السلفي "المحارب للبدع والخرافات المخالفة للكتاب والسنة الصحيحة" (الذي تتبناه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)في مكة والمدينة وتوابعهما. ولكن بعد مطالبات عدة من الشريف غالب من السلطنة العثمانية لإخراج السعوديين من الحجاز، كلفت استانبول واليها "القوي" على مصر " محمد علي باشا" الذي وجدها فرصة مواتية لتحقيق طموحاته في السيطرة على الجزيرة العربية كافة وامتداد سلطاته في ظل انشغال السلطنة العثمانية، فأعد جيشاً كبيراً بقيادة ابنه طوسون من مصر وفي شهر رمضان المبارك في مراكب بحرية ويضم فرقا من الأتراك والمصريين والشاميين وبعض المغاربة ، فنزل الجيش ميناء ينبع ودافع عنها حاكمها الموالي للسعوديين جابر بن جبارة إلا أنه لم يستطع الصمود أمام القوات المصرية المهاجمة وسيطرت القوات المصرية على ينبع ، ومنها زحفت على وادي الصفراء وجرت رحى معركة بين السعوديين بقيادة (عبدالله بن سعود) والمصريين بقيادة (طوسون) وتلقى الجيش المصري هزيمة كبيرة اضطرته للرجوع إلى ينبع والبقاء فيها لحين وصول المدد إليه ، وأخذت قيادة الجيش المصري توزع الأموال على قبائل ينبع وأوديتها ومن ذلك أنهم أعطوا كبير مشايخ حرب 100000 ريال فرنساوي لتوزيعها على قبائله ، ونال شيح حرب وحده 18000 ريال ورتبوا له رواتب شهرية ، فدعمت قبائل حرب الجيش المصري لدى زحفه على المدينة عندما وصله مدد عام 1227هـ بقيادة أحمد بن نابرت إلى ينبع فزحفت القوات مع قوات القبائل إلى المدينة المنورة للسيطرة عليها وكان لها ذلك ، حتى تمكنت القوات المصرية من السيطرة على الحجاز وإخراج السعوديين منه.(انظر الدحلان ، ص259، والسباعي ، تاريخ مكة،ص505، وصلاح الدين المختار، تاريخ المملكة العربية السعودية،ص119-124.)
وكان لينبع ـ بعد جدة ـ دور في استقبال المعونات العسكرية من البحرية البريطانية والناقلات المصرية التي اعتادت الرسو في ميناء ينبع ـ حيث إن مصر خاضعة للاحتلال البريطاني آنذاك ـ لدعم ومساندة قوات الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين باشا ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى بمساندة بريطانيا لإخراجهم من البلاد العربية. فقد انطلقت رصـاصة الحسين في فجر اليوم التاسع من شعبان عام1334هـ، أطلقها بيده من قصره بمكة ، فكانت إيذاناً بالثورة على الحكم العثماني الذي دخل الحرب العالمية مساندا لألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا فأصبح طرفاً رئيسيا في الحرب، فوافقت رغبات وخطط بريطانيا وفرنسا ومطامحهم الاستعمارية رغبات العرب في التخلص من الحكم التركي الاستبدادي ،واستقلال البلاد العربية عنه، وتزامنت مع طموحات الشريف حسين في بناء دولة عربية كبيرة له ولأبنائه، فاستغلت بريطانيا مشاعر العرب العدائية تجاه الأتراك ، ومطامح الشريف حسين السياسية، فدعمت ثورة الشريف حسين بالمال والعتاد الحربي،فانطلقت القوات العربية من مكة المكرمة وما جاورها من مدن وقرى وبوادي بعد القضاء على الحاميات التركية في مكة وجدة باتجاه المدينة المنورة وقد كانت بها أقوى الحاميات التركية ، وفي طريقهم إلى دمشق .
وعن ينبع يقول لورانس: )كان فيصل لا يزال قلقاً من إخلاء قواته لمدينة ينبع فهي قاعدته الرئيسية والمرفأ الثاني من حيث الأهمية في الحجاز) وفي موضع آخر يشير إلى أن الأسطول البريطاني(أسطول البحر الأحمر كما أسماه) يتجمع حول ينبع.(انظر: أعمدة الحكمة السبعة،الطبعة الرابعة،1400هـ/1980م،دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، ص89،وانظر: السباعي ، تاريخ مكة، ص60693).
ويجدر بي أن أثبت في هذه الدراسة الدور البطولي للأشراف الحُرَّث ، حيث برز عدد منهم كقادة ميدانيين للمعارك ـ في هذه الثورة ـ وفرسانٍ لا يشق لهم غبار، وتحدثت كتب الثورة العربية ، وكتب "لورانس العرب" عن بطولاتهم الفردية ،(حيث يصفهم لورانس :آل حارث أبناء المعارك)، ولعل من أبرزهم (الشريف علي بن الحسين الحارثي، والشريف فوزان بن هزاع الحارثي، والشريف عبدالله بن ثواب أبو يابس الحارثي، والشريف علي بن عريد الحارثي، والشريف سلطان بن عبدالعزيز بن مهنا الحارثي) وغيرهم.حتى وصلت القوات العربية إلى دمشق.(انظر لورانس: أعمدة الحكمة السبعة ،ص42،70، 104).
ويذكر الشريف عصام بن ناهض الهجاري عن إمارة ينبع:
" وكانت إمـارة ينبع وأعمالـها وتوابعها في الأشراف ذوي هجـار بدءًا من زمن جدهم قتادة المتوفى سنة 617 هـ إلى سنة 1344 هـ وكان آخرهم الشريف عبد الكريم بن بديوي الهجاري. وهم من عقب الشريف هجار أمير ينبع بن دراج أمير ينبع بن معزي أمير ينبع بن هجار أمير ينبع بن وبير أمير ينبع بن مخبار أمير ينبع بن محمد بن عقيل أمير ينبع بن راجح أمير ينبع بن إدريس أمير مكة وينبع بن حسن أمير مكة بن قتادة أمير ينبع ثم مكة بن إدريس ابن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله الأكبر بن محمد الثائر بن موسى الثاني ابن عبد الله الرضى الشيخ الصالح بن موسى الجون بن عبد الله الكامل المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ورحمهم الله " .
ويتحدث إبراهيم رفعت باشا (أمير الحج المصري ) في كتابه " مرآة الحرمين " في رحلته للحج عام 1321هـ بقوله: " فوصلنا ينبع غرة المحرم سنة 1321هـ(30مارس سنة1903م). وقد استقبلنا بالميناء محافظ ينبع ورئيس عسكرها (القومندان) بلباسهما الرسمي وحيتنا العساكر الشاهانية مصطفة على رصيف الميناء ثم أنزلت الأمتعة والمحمل إلى البر ونزلنا واحتفل بالمحمل احتفالاً عظيماً هرع إليه الناس جميعاً لأنهم لم يشاهدوا موكب المحمل قبل هذه المرة إذ كان المحمل وقتها ذاك يسافر براً يمر بينبع النخل التي تبعد عن ينبع البحر مسيرة 12 ساعة ولا يمر بالثانية " . ويصف ينبع البحر بقوله : " ولها مرسى مبني بالحجارة ويسكنها 7000 نفس وبها 800 منزل و300 دكان وثلاثة جوامع وتسعة مساجد صغيرة ومكتب للتعليم ودار للحكومة وأخرى للبريد ومخزن كبير وصهاريج يتجمع بها ماء المطر.. ـ مشيرا إلى قلة المياه وحاجة الناس وعطشهم ـ ويحيط بها سور به باب مخفور في الجهة الشمالية وهذا السور بناه دولة المشير عثمان باشا نوري الحاكم العادل الذي منع الأعراب من الدخول لهذه البلدة مسلحين.. وكان قبل هذا السور سور آخر جدده عثمان آغا بأمر دار السعادة في سنة1126هـ، وقبل السورين ، سور آخر أمر بهدمه في سنة 1079هـ الشريف سعد صاحب مكة..وأكثر الحجاج يمرون بينبع ميممين المدينة للصلاة في المسجد النبوي ولزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لذلك فينبغي العناية بها لأن نسبتها إلى المدينة كنسبة جدة إلى مكة " ص12-14.
ثم أحذت ينبع في التدهور والاضمحلال، ولعل ذلك يعود لجملة أسباب من بينها ، إنشاء خط حديد الحجاز الذي يربط المدينة بالشام، وتوقف طريق القوافل البري المار بينبع، وتحول الحجاج إلى ميناء جدة، ونضوب كثير من العيون والآبار في ينبع النخل مما ساهم في هجرة كثير من سكان ينبع إلى المدن المجاورة.[/ALIGN]