بقلم الشريف محمد بن حسين الحارثي
الموقع الجغرافي والنشأة التاريخية:
ينبع بالفتح ثم السكون وضم الموحدة التحتية، وعين مهملة، مضارع نبع، ونبع الماء: ظهر. وسميت ينبع بذلك لكثرة ينابيعها. قال الشريف سلمة بن عياش الينبعي: عددت بها مئة وسبعين عيناً(1).
وتقع على خط عرض (6ـ24) شمالاً، وخط طول( 3ـ38) شرقاً(2).
وتلك ينبع الميناء أو الثغر البحري أو ما تسمى حديثاً "ينبع البحر" التي لا تبعد كثيراً عن "ينبع النخل"، وفي الفترة الإسلامية المبكرة كانت الأحداث ترتبط أكثر بينبع النخل، ومن العهد الأيوبي وما بعده ارتبطت الأحداث بينبع البحر والنخل على السواء حتى نهاية العهد المملوكي. وما إضافة البحر إلا للتفريق وإن كانتا لا تختلفان في القبائل والعادات والتاريخ المشترك، وتمثل ينبع النخل الجزء الأعلى من المدينة، وينبع البحر تشكل الجزء الأدنى منها، وينبع البحر جزء أصيل من ينبع النخل وما المسافة الموجودة بينهما اليوم إلا مناطق العيون التي اندثرت معالمها، ومما يؤكد تلاحمهما وأنهما بلدة واحدة قول العباس بن الحسن للرشيد:
يا وادي القصر نعم القصر والوادي * من منزل حاضر إن شئت أو بادي
تلقى قراقيره بالعقر واقفـــــة * والضب والنون والملاح والحادي
فجمع الشاعر بين السفن ومرفأها والملاح، وحادي الإبل (والضب صيد البر والنون صيد البحر)(3).
ويحددها عرام السلمي (المتوفى في القرن الثالث) على أنها يمين رضوى الجبل، ويصفها بأنها قرية كبيرة غناء، سكانها من الأنصار وجهينة وليث وفيها عيون.(4)
ويصفها الإصطخري (ت340) بأنها حصن به نخل وماء وزروع، و بها وقوف لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يتولاها أولاده، ويصف جبل رضوى بأنه أخضر ويرى من ينبع.(5)
وقد أقطع النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أربع أرضين في ينبع هي الفقيرين وبئر قيس، والشجرة، وأقطعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينبع مضافة إلى غيرها. وينسب إلى كُثِّير قوله :
أهاجتك سلمــى أم أجد بكورهـا * وخفت بأنطاكي رقم خدودهـا
على هاجرات الشول قد خف خطرها * وأسلمها للضاعنات حضورها
قوارض حفني بطن ينبــع خطرها * قواصد شرقي العناقين عبرهـا
وممن ينسب إلى ينبع أبو عبد الله حرملة المدلجي له صحبة ورواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6)
ومن أبرز من نسب إلى ينبع من التابعين عبد الله بن الحسن (7) بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد تابعي من أهل المدينة كان ذا عارضة وهيبة ولسان وشرف، وكانت له منزلة عند عمر بن عبد العزيز، ويقول الخطيب البغدادي: ما رأيت أحداً من علمائنا يكرمون أحداً ما يكرمون عبد الله بن حسن، وعنه روى مالك الحديث، ويضيف أن لعبد الله بن الحسن رواية عن أبيه وعن أمه فاطمة بنت الحسين، ويروي عنه سوى مالك عبد العزيز بن محمد الداراوردي والمنذر بن زياد الطائي. أنجب من الأبناء من كان لهم أثر بارز في العالم الإسلامي أمثال محمد (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم ومن عقبه بعض أشراف ينبع اليوم.
وكذلك من الأبناء يحيى الذي خرج في عهد الرشيد، وسليمان الذي قتل بفخ، وإدريس الذي هرب إلى المغرب، ومن عقبه الأشراف الأدارسة، وموسى الذي من عقبه جُل أشراف الحجاز اليوم.
وقد ولد عبد الله بن الحسن سنة70، وتوفي في سجن أبي جعفر المنصور في الكوفة سنة 145هـ.(8)
ومن الشعراء العباس بن الحسن من أهل القرن الثاني الهجري، ومحمد بن صالح الحسني من أهل القرن الثالث الهجري. ومنهم أمير ينبع أبو هاشم محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر، وابنه عبد الله جد الأشراف الهواشم الأمراء حكام مكة من منتصف القرن الخامس إلى السادس الهجري، ومن الجغرافيين مسعر بن مهلهل الخزرجي من أهل القرن الرابع الهجري، وكذلك الشريف قتادة الذي تُنسب إليه الطبقة الرابعة من الأشراف أمراء مكة في القرن السادس الهجري حتى الرابع عشر الهجري، وجُل أشراف ينبع اليوم من ذريته.(9)
ومن علماء ينبع "محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد أبو عبد الله عز الدين الكتاني" ولد في ينبع عام 749هـ، وعُرف باسم "ابن جماعة" من تلاميذ ابن خلدون اشتهر بعلم اللغة والبيان والأصول.(10) ويتوسع عبد الكريم الخطيب في الحديث عنه نقلاً عن ابن خلدون الذي التقى ابن جماعة في ينبع عام (789هـ) والمقريزي والسيوطي بأن ابن جماعة عالم متفنن متكلم جدلي نظار نحوي لغوي بياني أخذ عن السراج الهذلي والضياء القرحي، وابن خلدون والتاج السبكي وأخيه البهاء وغيرهم، وله من المؤلفات الكثير، وبرز في الحكمة والطب وصناعة النفط والكيمياء، وكان يجله كثيراً ابن خلدون، وتوفي بالقاهرة عام 819هـ ذلك هو محمد بن جماعة الينبعي.(11)
وممن ينسب إلى ينبع مولداً تقي الدين ابن دقيق العيد (محيي الدين أبي الحسن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري النسب، المنفلوطي الأصل الينبعي المولد، القصصي المربي القاهري المنزل) وكان مولده بينبع في الخامس والعشرين من شعبان سنة 625هـ، وتوفى سنة 702هـ. اشتهر بمعرفته الواسعة للفقه والأسانيد والمتون، وتولى الإفتاء في المذهبين المالكي والشافعي وأقرأ الحديث بالكاملية، وتولى قضاء قضاة الشافعية بمصر.(12)
أما قرى ينبع فقد ارتبطت بكثير من الأحداث التاريخية الهامة على مدار الفترة الإسلامية خاصة المبكرة منها.
ومن أهم هذه القرى:
1- البغيبغة: بإعجام الغينين تصغير البغبغ، وهي البئر القريبة الرشاء، ولما صارت ينبع لعلي رضي الله عنه جعل عيون البغيبغات صدقة على المساكين وابن السبيل، وارتبطت بهذه القرية أحداث سياسية في عهود مختلفة.
2- البليدة: قرية لآل علي.
3- سويقة: تصغير ساق، يسكنها آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي أيضاً عين عذبة كثيرة الماء. وارتبطت أيضاً بأحداث سياسية عرّضتها لكثير من الاضطرابات بل إلى الحرق في عدة مرات وعقر نخلها وتخريب منازلها.
4- العشيرة: تصغير عشرة من العدد، أو تصغير عُشَرة واحدة العشر للشجر المعروف، وهي حصن صغير يُفضل تمره على سائر تمور الحجاز، وفي هذا المكان كانت غزوة العشيرة على زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الوقت الحاضر تغير اسمها إلى القرية أو "القريّة" تصغير قرية.(13)
5- العلقمية: ارتبطت هذه القرية بأنها كانت موطن قتادة أمير مكة ومؤسس الطبقة الرابعة من الأشراف أمراء مكة من القرن السادس إلى الرابع عشر الهجري.(14)
6- العيص: وادٍ من أشهر أودية الحجاز، الواقعة في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، وهو تابع الآن لمحافظة ينبع، ويبعد عنها بحوالي 150 كم، وسكانه من جهينة. وورد ذكره في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، في صلح الحديبية عندما لجأ أبو بصير بن سهيل بن عمروٍ إلى هذا الوادي ليقطع الطريق على قوافل قريش، حتى قتل رضي الله عنه.(15)
وكذلك ما نُسب إلى ينبع من آثار نبوية –مزعومة- (شعرات من شعر رسـول الله صـلى الله عليه وآله وسلم، ومكحلة، ومرود، وقطعة من قميص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيف من سيوفه، ومصحف لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وآخر لعلي بن أبي طـالب رضي الله عنه، نقلت إلى القاهرة في القرن السابع الهجري، اشتراها الصاحب بهاء الدين بن حنا الوزير المملوكي من أسرة بني إبراهيم من بني الحسن بن علي بن أبي طـالب رضي الله عنهما من سكان مدينة ينبع. (16) واستقرت هذه الآثار الآن في مسجد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما المزعوم وجود قبره بمصر.(17)
تابع
المفضلات