السلام عليكم

من الشك إلى الإيمان السبت 21 ذو الحجة 1431 الموافق 27 نوفمبر 2010

ملاك الخالدي
"إنَّ زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارنة الحجج التي تفردتُ بها, كان هو الحافز وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب لقد رفضتُ عبادة الله لأني استغرقتُ في عبادة نفسي وأُعجبتُ بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي".
كانت تلك الكلمات للمفكر والطبيب والأديب مصطفى محمود الذي رحل عنا في أكتوبر الماضي مُخلفًا وراءه نتاجًا فكريًا علميًا إيمانيًا ضخمًا, كانت نتيجة رحلة فكرية شاقة وعصيبة ران عليها الشك أمدًا وأنضجها البحث والتساؤل حتى وصلت إلى اليقين.
وهكذا هي حياة المفكرين والمتفكرين حافلةٌ بالتقلبات والتحولات الموجبة في كثيرٍ من الأحيان, إنها نتاج طبيعة عقولهم القلقة المتسائلة وتجاربهم الوعرة والمربكة كذلك, قد تحملهم على الشك في كثير من الحقائق الإلهية والكونية ولكنها تسلمهم إلى خيرٍ وحق وبالأخص أولئك أهل الوحدانية الذين لا يزدادون إلا إيمانًا وخشية على طريق البحث والتساؤل, وما دون ذلك فأسماء معدودة انتهى تأثيرها وامتدادها في رحابنا المسلم برحيل أصحابها.
ولعل أبرز أسباب التحولات الفكرية السالبة لدى المفكرين والمتفكرين المسلمين من وجهة نظري ما يلي:
1- الانحسار العلمي والعقلي:
إن الرسوخ العلمي والقدرة العقلية الخلاقة, تجعل من المتفكر كيانًا يمضي بثقةٍ وثبات في لجج العلم والفكر, فهو يقف على قاعدة علمية معرفية ترفده وتعليه في عالمٍ لا يعترفُ إلا بالعلم المحض فلا حساب للغيبيات في المطارحات العلمية, كما أن الموسوعية العلمية الفكرية أرض خصبة تبتلع الأفكار المختلفة كسماد يذوب ولا يذيب, فلا تزداد الأرض إلا خصوبة والطلع إلا قوةً ونماءً, فإن كان الإلمام بالعلوم الدينية وبعض العلوم العقلية هو ما يحتاجه المفكر المسلم سابقًا فهو اليوم بحاجة ماسة للإلمام بالتيارات والمذاهب والتوجهات والأيدلوجيات الجديدة والمتواترة والمتجددة كالوجودية والاشتراكية والطبيعية والعقلانية والنفعية والواقعية وغيرها كي يتفادى الانهيار أو الانكماش.
كما أن القدرة العقلية المرتفعة تمكنه من فهم الأفكار مهما علت وعمقت فهمًا كاملًا والاطمئنان لها أو مقارعتها وتفنيدها ومن ثم تجاوزها, فالمحدودية العقلية تؤدي لمحدودية فهم الفكرة ومن ثم العجز أمامها إما بالاعتناق أو الرفض دون هدى, والعقل المتطور هو نتيجة الاطلاع المستمر والتجربة الحثيثة والوصول له متاح إن توافرت الهمة والإرادة.
2- الصدمة الحضارية:
أستطيع القول أنها الأثر الذي يعتري الفرد نظير التقائه بواقعٍ مدنيٍ مادي أو فكري أو علمي مختلف متطور, ولنا أن نتصور ما يشعره المرء حين ينتقل من منزله البسيط ومدينة الصغيرة لجامعة ضخمة أو شركة عملاقة أو حتى لحضور مؤتمر أو ندوة في مدينة أكبر, بالتأكيد سينتابه إحساس بعبثية بل بعدمية المشهد الذي تركه خلفه أمام الطرح المرتفع والمنهجية المنظمة والمختلفة, فكيف بذلك الذي ينتقل لما وراء المحيطات فيتفاجأ بما يختلف جذريًا عما كان عليه وعايشه, إنه يواجه تخمة مادية علمية فكرية غربية بواقعه المفلس وذاكرته المشحونة بالضعف والانكسار والخيبات المتلاحقة, وعلى الرغم مما تسببه الصدمة الحضارية من انتكاس إلا أنها تصبح أقل أثرًا برفع منسوب التنوع والتزود الثقافي حينها ستكون تلك الصدمة أشبه بجرس إنذارٍ وتوجيه وهذا ما حدث للمفكر الراحل مالك بن نبي الذي بدأ البحث والتفكير في أسباب تخلف وضعف المسلمين حين وقف على الواقع المتقدم لفرنسا ونجح في ذلك, لقد قام بتحويل انبهاره بتلك المدنيّة وانكساره بعد رفضهم قبوله في جامعة السوربون لاعتبارات دينية وعرقية إلى مشروع فكري إيماني إرشادي كبير حتى بات فكره ومؤلفاته اليوم محورًا لرسائل علمية هامة في جامعة السوربون نفسها.
كما أن الصدمة الحضارية ذاتها جعلت المفكر عبدالله القصيمي يعود عما كان عليه بعد أن كان عالمًا ومفكرًا عتيدًا وهو الذي قام بتأليف كتبٍ للرد على مخالفيه وهو في مطلع العشرينيات من عمره, فهو لا يقل أبدًا من حيث الرسوخ العلمي أو الألمعية العقلية عن مالك بن نبي رحمه الله إلا أن احتجاب واقعه الجغرافي والديموغرافي عن المستجدات العلمية والمادية وانكفاءه عن الصراعات الفكرية الحديثة جعلت الصدمة الحضارية مضاعفة وتأثيرها مُركّبًا حين ولج مصر التي كانت تعج آنذاك بالتيارات الوجودية والاشتراكية التي أسلمته لنزعات متقلبة متطرفة أفضت به إلى الإلحاد والعياذ بالله, وهذا ما لم يحدث مع نظرائه الذين تعرضوا لصدمات حضارية كمالك بن نبي أو مصطفى محمود أو حتى سيد قطب وبرغم الاختلاف والجدال حول أفكار الأخير إلا أنه ترك الافتتان بالمذاهب المادية إلى الإيمان وبدأ مشروعه العلمي الفكري بعد زيارته لأمريكا وشعوره بضرورة بناء المجتمع المسلم.
و لعلي أنتهي إلى القول أن العقل القلق المتسائل ليس هاجسًا مفزعًا أو عدوًا للإيمان كي نسعى لقمعه إنما هو الدافع الأمثل للوصول إلى اليقين باستصحاب الرسوخ العلمي والقدرة العقلية المتطورة ورفع منسوب الثقافة الموسوعية الحديثة والتي أصبحت ترتفعُ باضطراد نتيجة للثورة المعرفية والتقنية, كل ذلك كفيل بتجاوز موجات الشك وزعزعة الثوابت بل بترسيخ الثوابت وقد يكون بداية لمشاريع فكرية كبرى.
و كما ابتدأت بكلمات العالم الراحل مصطفى محمود سأختم بها ( قررتُ أن أعطي نفسي لرسالتي وهدفي كداعية إسلامي ومؤلف وكاتب وأديب ومفكر، وأن أعطي ظهري لكل حقدٍ أو حسد ولا أضيع وقتي في الاشتباك مع هذه الأشياء وأفضّل أن أتجنبها وأتجنب أصحابها حتى لا أبدد طاقتي فيما لا جدوى وراءه، انتصاراتي على نفسي هي أهم انتصارات في حياتي وكانت دائمًا بفضل الله وبالقوة التي أمدني بها وبالبصيرة والنور الذي نوّر به طريقي).